✍️ يوحنا عزمي
بهدوء شديد ، وبعقل مفتوح رغم صخب المعاناة ، أتوجه إليكم بكلمات لا تبحث عن تبرير ، بل عن إدراك أعمق لما نمر به. فقد أعلنت الدولة قرارًا بتخفيض دعم البنزين ، لتبدأ معه عاصفة من الانتقادات والهجوم على الدولة عبر مواقع التواصل وبعض المنصات الإعلامية، وكأننا نعيش فى جزيرة مستقرة وسط محيط هادئ.
لست مع رفع الدعم ، ولست من أنصار الرأسمالية المتوحشة ، بل أؤمن – وما زلت – أن مصر بحاجة إلى نظرية اقتصادية هجينة تأخذ من الاشتراكية عدالتها الإجتماعية ، ومن الرأسمالية أدواتها الإنتاجية ، بحيث تبقى الدولة شريكًا حقيقيًا في السوق ، منافسًا قويًا يضبط الأسعار ، ومراقباً صارمًا لهوامش الربح ، لا أن تطلق يد القطاع الخاص بلا حدود.
لكن ، هل نحن في لحظة رفاهية تسمح بمناقشة النظريات الاقتصادية وتعديل فلسفة السوق؟
هل نمتلك ذلك الترف ، ونحن في قلب أخطر منطقة مشتعلة على وجه الأرض؟ العالم من حولنا ينهار ، والنار مشتعلة على حدودنا ، وأصوات الحرب تُسمع من كل اتجاه.
فلتنظروا جيدًا إلى المشهد الإقليمي
مصر فقدت ما يقرب من 7 مليارات دولار من دخل قناة السويس في عام 2024 ، بسبب الهجمات الإرهابية في البحر الأحمر.
استقبلت مصر أكثر من 100 ألف مصاب فلسطيني ، تم علاجهم على نفقة الدولة بتكلفة تجاوزت المليار دولار.
الجيش المصرى رفع جاهزيته القتالية لأقصى درجة، وهو ما يُكلف الدولة مليارات إضافية لا توجد لها إيرادات كافية.
كل هذا يحدث ، ومع ذلك لم تُقدم الدولة حتى الآن على تحميل الشعب أعباءً كاملة ، كما تفعل دول كثيرة في مثل هذه الظروف.
لم تُلغ الخدمات ، ولم تُفرض ضرائب مفاجئة ، رغم ضيق الحال وشح الموارد.
ولمن يظن أن قرار تخفيض دعم البنزين جاء بدون تخطيط أو بإشارة هاتفية من الرئيس ، فليعلم أن :
هناك لجنة اقتصادية تضم وزراء ومساعدين وخبراء حاصلين على أعلى الشهادات الأكاديمية، تدرس المشهد وتقدم اقتراحاتها.
القرار يُناقش في مجلس الوزراء ، ويُعرض على اللجنة الاقتصادية في البرلمان – التي نحن من انتخبنا أعضائها – قبل أن يُحال في النهاية إلى الرئيس.
القرار إذن ليس انفراداً ، بل نتيجة دراسة طويلة ومداولات عميقة في محاولة لتقليل العجز المتصاعد في موازنة الدولة.
هل يمكن أن يكون القرار خاطئاً ؟ نعم ، بكل تأكيد. فلا أحد يملك العصمة. ولكن هل هذه هي اللحظة المناسبة للصراخ والاحتجاج والتشكيك؟! نحن لا نعيش في أوقات عادية ، بل في قلب إعصار إقليمي :
إسرائيل تضغط لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء ، ومصر أعلنت أن هذا “خط أحمر”.
احتمال الحرب قائم في أية لحظة ، مع اشتداد العدوان واحتشاد الجيوش.
أمريكا حاضرة بكامل قوتها في البحر الأحمر، وإيران على أهبة الرد.
ملايين المصريين في الخليج مهددون إن اشتعلت الحرب.
الحوثيون قد يقصفون قناة السويس ، والدعم السريع قد يهاجم الحدود الجنوبية بتمويل خارجي.
في ظل هذا المشهد الجحيمي ، هل يُعقل أن نقف لنُقيم توقيت قرار اقتصادي داخلي؟
هل يليق أن نشعل معركة جانبية ضد القيادة، بينما الحرب الحقيقية تُقرع طبولها على حدودنا ؟
أيها السادة ، استمرارك في بيتك ، في حياتك العادية ، وعدم تحولك إلى لاجئ مشرد أو جثة تحت الركام ، هو معجزة حقيقية.
معجزة شاء الله أن تتم على يد قيادة وطنية واعية ، تدير هذه اللحظة الصعبة بحكمة وإصرار، وعلى يد جنود بواسل في الجيش والشرطة ، دفعوا ثمن هذه الحياة بدمائهم.
نحو 8 آلاف شهيد مصري سقطوا دفاعًا عنك ، عني ، عن أولادنا جميعًا. آلاف آخرون أُصيبوا ، وأسرهم تدفع الثمن يوميًا.
الخاتمة : دعونا لا نجلد أنفسنا.
نعم ، هناك معاناة من الغلاء ، نعم هناك أخطاء ، لكن ما زلنا نعيش نأكل ، نتحرك ، نطمح. وهذا وحده معجزة فى زمن الانهيارات الكبرى.
فى ألمانيا – ثالث أقوى اقتصاد فى العالم – أُغلقت ثلث المصانع وتحول الملايين إلى طوابير الملاجئ.
وفى أمريكا وبريطانيا وفرنسا ، المعاناة الاقتصادية تكاد تطحن الناس.
أما نحن ، فبجانب الضغوط الدولية ، نعاني من أنفسنا.
جشع بعض التجار المصريين ساهم في اشتعال الأسعار.
كل من غالى في الربح خان الوطن.
فلنتقِ الله ، ولنصنع رأيًا عامًا يقول بوضوح : المغالاة خيانة ، والاستقرار نعمة ، ومصر فوق الجميع.