✍️ يوحنا عزمي
العالم يقف اليوم عند مفترق طرق غير مسبوق ، حيث تتداخل مسارات الحرب والسياسة والدبلوماسية في مشهد واحد يزداد تعقيدًا مع مرور كل ساعة.
فبينما كانت الولايات المتحدة هي الداعم الأول لأوكرانيا ، وهي التي دفعت أوروبا إلى مواجهة مفتوحة مع روسيا منذ 2022، نجدها الآن تبدو وكأنها تسلم مفاتيح كييف إلى موسكو على طبق من فضة. ما جرى في ألاسكا خلال اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب ، لم يكن مجرد اجتماع سياسي عابر ، بل كان حدثًا أقرب إلى إعادة رسم خريطة النفوذ الدولي.
في غياب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ، جلس ترامب وبوتين يتحدثان عن مستقبل أوكرانيا وكأنها ورقة تفاوض تخصهما وحدهما. الأكثر إثارة للدهشة كان المشهد المصاحب للزيارة :
بوتين استُقبل وكأنه قائد منتصر ، لا خصم عسكري دخل في مواجهة مباشرة مع الغرب منذ أربع سنوات. طائرات B2 الاستراتيجية حلقت في السماء ، عروض عسكرية رافقت وصوله، والسجادة الحمراء مُدّت كأنها إعلان ضمني بانتصار موسكو.
تلك الصور التي التقطتها الكاميرات لم تكن مجرد بروتوكول ، بل رسائل سياسية صريحة قلبت المعادلة في القارة الأوروبية رأساً على عقب.
بالنسبة لعواصم أوروبا، التي أنفقت المليارات على دعم كييف، وتخلت عن الغاز والنفط الروسيين ، وحاولت بناء قدرات عسكرية متسارعة لمواجهة التوسع الروسي ، بدا المشهد أشبه بكابوس.
الدولة التي قادتهم نحو هذه المواجهة الطويلة ، ها هي تجلس مع بوتين لتتفق على تسويات تتضمن بقاء القرم في يد روسيا ، ومنع انضمام أوكرانيا للناتو إلى الأبد ، بل وتحويل دونيتسك وربما مناطق أخرى إلى مناطق منزوعة السلاح تحت إشراف روسي – أميركي.
وبذلك ، تجد كييف نفسها أمام واقع جديد : دولة بلا ضمانات غربية ، وبلا مظلة الحلف الأطلسي ، وربما مضطرة لقبول “احتلال ناعم” يشبه ما تعيشه الضفة الغربية تحت إدارة إسرائيلية مقنعة.
الصدمة لم تتوقف عند ذلك الحد. فالتسريبات أكدت أن مدة اللقاء لم تتجاوز تسعين دقيقة ، لكنها كانت كفيلة بتغيير ملامح النظام الدولي ، وإعادة موسكو إلى موقع القوة العظمى المنتصرة. ترامب خرج من الاجتماع بصورة “صانع السلام”، بينما أوروبا غارقة في مأزق استراتيجي ، وزيلينسكي يواجه أسوأ كوابيسه : بلاده على وشك أن تُفرض عليها تسوية مذلة ، والدعم الأميركي الذي شكّل شريان الحياة قد يُقطع في أي لحظة.
ولهذا ، لم يكن غريبًا أن يسارع زيلينسكي إلى واشنطن برفقة قادة أوروبا ؛ من ماكرون إلى ميرتس ، ومن ميلوني إلى ستارمر ، وحتى الأمين العام الجديد للناتو. الهدف واحد : محاولة الضغط على البيت الأبيض لوقف ما يرونه عملية تسليم تدريجية لأوكرانيا إلى روسيا.
لكن بينما كان هذا المشهد يتبلور في أقصى شمال الكرة الأرضية ، كان الشرق الأوسط يشهد بدوره لحظة لا تقل أهمية. في القاهرة ، اجتمع وفد حركة حماس والفصائل الفلسطينية وأعلن موافقته النهائية على المبادرة المصرية – القطرية لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
هذه الخطوة ، التي وُصفت بأنها أكبر تنازل تقدمه الحركة منذ اندلاع الحرب على غزة ، عكست إدراكًا بأن المعركة الطويلة استنزفت الجميع ، وأن إنهاء شلال الدم أصبح ضرورة سياسية وإنسانية. المبادرة تنص على هدنة تمتد لستين يومًا ، تتخللها عملية تبادل أسرى تبدأ بعشرة إسرائيليين مقابل مجموعة من الأسرى الفلسطينيين ، تمهيدًا لوقف شامل للعمليات العسكرية.
الكرة الآن باتت في ملعب إسرائيل. فإذا وافقت حكومة نتنياهو، فقد يكون ذلك بداية مسار يضع حدًا لأشهر من القصف والدمار والمعاناة الإنسانية غير المسبوقة. أما إذا رفضت ، فإن المنطقة ستجد نفسها أمام تصعيد خطير. المبادرة جاءت شاملة وبدعم من أطراف دولية وإقليمية ، وبالتالي فإن الرفض قد يُفسر على أنه إعلان نوايا للتمسك بخطط أبعد ، كفكرة “إسرائيل الكبرى” التي تحدّث عنها نتنياهو مرارًا ، أو مخطط تهجير الفلسطينيين نحو الحدود المصرية الذي تسرّبت تفاصيله سابقًا.
في هذه الحالة ، لن يكون من السهل على القاهرة أن تقف موقف المتفرج ، خاصة بعد الرسائل الواضحة التي وصلت للقيادة الإسرائيلية بأن التلاعب أو المماطلة سيؤديان إلى توتر غير مسبوق وربما مواجهة مباشرة.
هكذا ، يجد العالم نفسه في ظرف زمني متزامن أمام مفارقة تاريخية : في الغرب ، حرب أوكرانيا تقترب من نهايتها عبر صفقة قد تُسقط أوكرانيا في فخ النفوذ الروسي. وفي الشرق ، حرب غزة قد تشهد منعطفًا دبلوماسيًا غير متوقع، إما نحو التهدئة أو نحو مواجهة إقليمية أوسع. كلا الملفين يكشف أن النظام الدولي يدخل مرحلة إعادة تشكيل جذرية ، حيث لم يعد ميزان القوى كما كان، ولم تعد التحالفات مضمونة كما في السابق.
الساعات المقبلة قد تحمل إجابات على أسئلة كبرى : هل ينجح ترامب في تسويق نفسه كصانع سلام رغم ما يراه الأوروبيون خيانة؟
وهل تجرؤ إسرائيل على رفض مبادرة حماس – مصر ، بما يعنيه ذلك من فتح باب التصعيد مع القاهرة؟
المشهد متحرك ومتسارع ، وكل طرف يسابق الزمن لتثبيت موقعه في عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
ما يبدو مؤكدًا هو أن العالم لن يعود كما كان قبل هذه الأيام القليلة. إننا أمام بداية مرحلة جديدة ، حيث يُعاد رسم خرائط النفوذ ، وتتقاطع مصالح القوى العظمى والإقليمية في صراع على من يملك الكلمة الأخيرة في مستقبل النظام الدولي.