لم تكن جلسة الأمس في مجلس النواب المصري عادية.
لم تكن من تلك الجلسات التي تمر مرور الكرام ، أو تُبث
على الشاشات في لقطاتٍ منتقاة بعناية.
ما جرى كان انفجارًا برلمانياً حقيقياً ، صرخة متأخرة في وجه صمت طويل ، خرجت فيها الحقائق كأنها وُلدت من رحم الغضب الشعبي المتراكم.
تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات لم يكن ورقة روتينية ، بل قنبلة أُلقيت في قاعة البرلمان. كشف التقرير عن عوار اقتصادي جسيم عن قراراتٍ مرتجلة ، وأرقامٍ صادمة ، وممارساتٍ تنتمي إلى منطق الغنيمة لا إلى فن إدارة الدولة. كلمات النواب لم تكن عابرة ، بل نُطقت بلهجة مشتعلة ، كأنها نداء أخير قبل أن يغرق المركب تماماً.
ولأول مرة ، يسمع المصريون ـ أو بعضهم ممن حالفهم الحظ ـ ما لم يُذع ، وما لا يُراد له أن يُذاع: فضائح مالية ، غياب للإصلاح ، قروض تنهش المستقبل ، وموازنة اختُزلت في بند واحد : “جيب المواطن”.
النائب عبد العليم داوود طالب بسحب الثقة من الحكومة، وإحالتها للنائب العام. النائب ضياء الدين داوود ألقى كلمته كمن يقرأ شهادة إبراء ذمة : “أُخلي ضميري أمام الله والمصريين”. إيهاب منصور ، بواقعية لاذعة ، قالها بوضوح : “هذه حكومة لا تعرف إلا القروض ولا تملك إلا أن تفتش في جيوب الناس”.
عبد المنعم إمام طالب بتغيير عاجل ، وعاطف مغاوري وضع إصبعه على جرح الاقتصاد المفتوح ، وسط تأييد نيابي واسع. أما ديون مصر ، فقد أصبحت مادةً لقلقٍ جماعي. محمد عطية الفيومي حذر من انزلاق خطير ، وأيمن أبو العلا أعلنها صراحة : “نستدين دون أن نستفيد”
والمفاجأة ، أن حتى كيانات كانت تُحسب على الموالاة مثل “تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين”، تخلت عن تحفظها المعتاد وبدأت تكشف ، بالأسماء والأرقام ، كوارث الإدارة الحكومية.
نواب مثل محمد عبد العزيز ، أميرة العادلي ، غادة علي وغيرهم، قدموا شهاداتهم تحت قبة البرلمان ، رافضين الاستمرار في التواطؤ بالصمت.
أما حزب “مستقبل وطن”، الذي طالما كان خط دفاع الحكومة الأول ، فبرغم تصويته لصالح الحساب الختامي ، لم يمنع نوابه من إطلاق إشارات تحذير ، وتقديم نصائح إصلاحية عاجلة ، لعل الحكومة تفيق من غيبوبتها قبل السقوط المدوي.
ولا ننسى أن هذه ليست أول مرة يُطالب فيها برلمانيون بإقالة حكومة الدكتور مصطفى مدبولي. فمنذ عامين ، والنداءات تتكرر لكن الآذان مغلقة ، والمنابر مصادرة ، والقرارات تأتي عكس كل النصائح.
واليوم ، بعد أن وصل الفقر إلى أبواب الطبقة المتوسطة ، وبعد أن صار العجز واقعًا لا يمكن إنكاره ، تجددت المطالبة برحيل حكومة لم تعد تصلح للمرحلة ، في ظل تحديات أمن قومي واقتصادي غير مسبوقة.
نحن أمام لحظة مصيرية ، لا ينفع فيها التجميل ، ولا يُجدي فيها دفن الرؤوس في الرمال. الإنقاذ الحقيقي يبدأ بالاعتراف وبمحاسبة من أوصلونا إلى هذا المنحدر.
فلا الوطن يحتمل المزيد من التجريب ، ولا المواطن يملك مزيداً من الصبر.
وعليه ؛ فإن إحترام العلم ، والعودة إلى صوت السياسة الرشيدة والإنصات لصرخة البرلمان ، هي الطريق الوحيد نحو الخلاص. فليبارك الله من قال كلمة حق ، وثبت أقدام من اختار الوطن على المصلحة.
فإن لم تُحاسب هذه الحكومة اليوم ، متى إذًا؟
وإن لم يُسمع لصوت البرلمان حين يصرخ ، فلمن يُسمع؟
وإن لم يُطح بالفشل حين يتوحش ، فمتى نوقف النزيف؟
إن بقاء حكومة د.مدبولي بعد هذا التقرير ، وبعد هذا السقوط الحر في مؤشرات الدولة ، هو استهتار بإرادة شعب ، واستخفاف ببرلمان قال كلمته على رؤوس الأشهاد.
إنها حكومة استنفدت شرعيتها ، وأحرقت كل فرصها ، وليس بعد الخيانة الاقتصادية سوى المحاسبة ، ولا بعد الانهيار سوى التغيير الجذري ، لا الترقيع ولا تدوير الكارثة.
الوطن اليوم في سباق مع الانهيار ..
فإما قرار حاسم يضع حدًا لهذا العبث.
وإما أن نكتب شهادة وفاة دولة كانت.
وسيسألنا التاريخ : لماذا سكتم؟
وسنجيبه : صرخنا .. ولكن من بيده القرار ، كان أطرشاً.