قناة السويس .. حين شق الإنسان قلب الصحراء
✍️ يوحنا عزمي
لم تكن قناة السويس مجرد مشروع هندسي
بل كانت ملحمة إنسانية كتبت بالعرق والدم.
بدأ الحلم سنة 1859، حين جاء المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس حاملاً مشروعه الجريء : أن يشق البشر طريقًا مائياً بين البحرين ، الأبيض والأحمر.
على مدى عشر سنوات ، انتفضت الأرض المصرية تحت أقدام مئات الآلاف من العمال ، الذين عملوا بالسخرة وسط لهيب الشمس ، وأهوال الأمراض ، وجبروت الاستعمار.
وفي 17 نوفمبر 1869 ، وُلدت القناة أخيراً … شريان حياة للعالم ، وكفاح خالد محفور في ذاكرة مصر.
سنوات مرت ، قبل أن يستعيدها المصريون إلى حضن وطنهم بقيادة جمال عبد الناصر ، لتصبح القناة رمزًا للسيادة ، لا مجرد ممر بين بحرين.
وفي مشهد يعيد إلى الأذهان أكثر فصول الاستعمار وقاحة.
خرج دونالد ترامب ، الرئيس الأمريكي ليعلن بكل عنجهية أن السفن الأمريكية – عسكرية وتجارية – يجب أن تعبر قناتي السويس وبنما “مجاناً ، دون دفع رسوم أو إحترام سيادة الدول المالكة لهاتين القناتين.
نعم ، لم يكن مشهداً من القرن التاسع عشر ، بل تصريحاً رسمياً قاله ترامب أمام آلاف المؤيدين المتعطشين لكل خطاب إمبريالي متغطرس.
ترامب يحلم بإحياء عصر الإستعمار
بلهجة لا تخلو من ازدراء واضح للقوانين الدولية ، قال ترامب :
“نحن نحمي التجارة العالمية … فمن حقنا أن نعبر هذه القنوات من دون أن نُبتز “.
ابتزاز ؟ .. هكذا يرى ترامب حق مصر وبنما السيادي في إدارة قنوات تمر عبر أراضيهما ؟ .. هكذا يريد إعادة تعريف العالم : حيث تمر جيوشه وتجاراته دون إذن ولا مقابل.
رد مصر وبنما .. الرسالة وصلت
لم تتأخر القاهرة ولا مدينة بنما في فهم الرسالة.
مسؤولون مصريون كبار وصفوا تصريح ترامب بأنه
“اعتداء سافر على السيادة الوطنية”، بينما توعدت بنما
بـ”رد دبلوماسي قوي” على أي محاولة للضغط أو الابتزاز.
مصادر سيادية أكدت أن “السويس ليست للبيع … ولا المرور فيها مجاناً إلا لمن يحمل علم العدالة والإحترام”.
ترامب .. الرجل الذي يحن إلى زمن الإحتلال
من يتابع مسيرة ترامب السياسية ، يدرك أن تصريحاته ليست مجرد فلتة لسان. هو ابن مدرسة ترى أن القوة تخلق الحق ، وأن أمريكا فوق الجميع ، بلا حسيب ولا رقيب.
ترامب لا يريد فقط المرور المجاني ، بل يريد إعادة صياغة علاقات العالم ليعود زمن المدافع والسفن الحربية التي تملي شروطها على الشعوب المستضعفة.
تحذير للعالم .. لا تستهينوا بالجنون
قد يضحك البعض على تصريحات ترامب ويعتبرونها “مسرحية انتخابية”، لكن التاريخ يعلمنا أن كل الكوارث الكبرى بدأت بكلمات مجنونة لم يأخذها أحد على محمل الجد.
ترامب لم يطلب “مروراً مجانياً”، بل أعلن ، دون أن يدري ربما أن أمريكا في عهده لا ترى في العالم سوى مستعمرة كبيرة .. تنتظر فقط من يرفع الراية البيضاء.
هل يقبل العالم أن يعيش قرناً جديداً تحت قراصنة جدد؟
ما الذي يسعى إليه ترامب؟
ترامب يدرك أن قاعدة مؤيديه تعشق الخطاب القومي العدواني وترى أن أمريكا يجب أن تتصرف كـ”شرطي العالم” بلا اعتذار.
بإثارته لهذا الملف الحساس ، يعزز صورته كرئيس “لا يساوم” على مصالح بلاده ، حتى لو أدى ذلك لخلق أزمات دولية.
لكن الواقعية تفرض نفسها : لا قناة السويس ولا قناة بنما ستسمحان بمرور مجاني ، خصوصًا أن عائدات المرور تمثل ركيزة أساسية لاقتصاد البلدين. وأي محاولة لفرض أمر واقع بالقوة قد تقود إلى صدامات خطيرة.
جنون أم استراتيجية؟
يبقى السؤال : هل هذه التصريحات مجرد شطحة جديدة من شطحات ترامب المعهودة ، أم أنها تمهيد لاستراتيجية ضغط أوسع تستهدف إعادة صياغة قواعد التجارة البحرية العالمية بما يخدم مصالح واشنطن؟