بقلم: ضياء علي الدعاس
بين التعرف والتفكر: تمهيدٌ للحائرين في طرقات القلوب.
مؤخرًا لم أعد ممن يهوون الحديث عن الحب، ولا ممن يغريهم ضجيج المفردة أو بريقها المُستهلك…فإذا سمعت أحدهم يتحدث عن الحب، أغلق قلبي كما تُغلق النوافذ في ليال العاصفة، وأتوارى عن السؤال كأنما في الأمر خديعة لغوية أو فخ روحي.
لكنني في زمنٍ أصبحت فيه الكلمة سِلعة، والمشاعر تغريدة، والحب… مجرد ظل باهت لأغنية مكرورة، وجدتني لا أدري كيف أتوقف عند هذه الكلمة “الحب”
أتأملها كما يتأمل العطشان شبح النهر…
وما بين ما سمعته، وما قرأته، وما عشته، وما رأيت أثره في وجوه الآخرين، تشكلت في ذهني أسئلة، وها أنا أبدأ بها مقالًا لا يدعي المعرفة، بل يسعى إليها.
ما الحب؟
سؤالٌ قديم، جاوبته القلوب قبل أن تفكر فيه العقول…
من قيس بن الملوّح حين هام في البراري، إلى جبران حين قال إن الحب لا يملك، ولا يُملَك، ظل السؤال مفتوحًا، متجددًا، كأنما لا يستقر على صورة،فهل الحب تعريف؟ أم أنه فهمٌ لا يُدرك إلا بالوجع؟
هل هو نار تُشعل القلب أم ظل يسكنه بهدوء؟
لقد فهمت…أو ظننت أنني فهمت…أن الحب ليس شعورًا واحدًا، بل هو سماءٌ تتقاطع فيها غيوم الشوق، ورعد الغيرة، ونسيم الحنان، وأحيانًا… صمت لا يفسره إلا الغياب
يقولون إننا نحتاج إلى الحب لنكتمل، لكنني أقول: إننا نحتاج إليه لنشعر أننا لسنا وحدنا في هذا الكون الواسع البارد…فالحب ليس ترفًا عاطفيًا، بل هو وطنٌ روحي، نبحث فيه عن مَن يرانا حين نختفي، ويذكرنا حين نصمت، ويمنحنا الإذن بأن نكون نحن.
وما الفرق بين الحب والتعلق؟ بينه وبين الاحتياج؟
الفرق في الصدق…فالحب حرٌ، كريم، يعطي دون أن ينتظر.
أما التعلّق، فهو أسير الخوف،
والاحتياج، ابن النقص،
والاعتياد، وريث الوحدة.
الحب لا يسكن إلا القلوب التي نضجت، وهدأت، وسكنت…
أما القلوب المضطربة، فإنها تحب لتملأ فراغها، لا لتمنح ما فيها
هل يجب أن يمر الحب بالألم؟
أظن أن الحب بلا وجع مثل قصيدة بلا قافية…قد تُقرأ، لكنها لا تُخلَد
فالألم يكشف معدن الشعور، يختبر صدقه، يطهره من الأنانية، ويجعله أكثر نقاءً
لكن الغريب أنني رأيت من يحب، لا لأنه وجد الحبيب، بل لأنه عطشان للحب ذاته،يشتاق للفكرة، للصورة، للرسالة الطويلة، للورد، للغياب والعودة…
وكأنما صار الحب مرآة يود أن يرى فيها نفسه الجميلة لا الآخر
أهذا حب؟ أم وهمٌ نرتديه لنخدع قلوبنا المتعبة؟
ثم تأملت الفرق العميق بين من يحب ليكتمل، ومن يحب لأنه كامل؛فالأول يتعلق، يلهث، يخاف، يطلب، يُرجى، يُعاتب…
أما الثاني، فيحب بصمتٍ مهيب، كأنه شجرة وارفة لا تسأل المطر عن موعده،هو يعطي لأن فيه فائضًا من الحياة، لا حاجةً إلى التعويض
هكذا إذن، أردت أن أبدأ رحلتي هذه.
رحلة تأمل لا ادعاء، بحث لا تعليم، سؤال لا جواب نهائي له،سلسلة مقالات، قد لا تُفسر الحب، لكنها تحاول أن تجلس إلى جانبه، وتستمع.
سنمضي معًا إلى مقال ثانٍ، نفتح فيه بابًا على الحب في الزمان والمجتمعات،
فإن كنت قد أحببت…أو ظننت أنك أحببت…فلا تغب عن الموعد القادم
يتبع….