ابداعات

هل يعقل أن تكون القاتلة فتاة؟

 

 

رحمة خميس

 

 

“أنا لا أرتكب الجرائم،

أنا فقط أُكرر ما جرى.”

 

هكذا ابتدأت هالة مذكراتها.

تلك الفتاة التي نشأت في بيتٍ لا تُعلق فيه الصور، ولا يُرفع فيه صوت الضحك، ولا تُغلق فيه الأبواب تمامًا، وكأن الماضي فيه يتسلل من كل زاوية، كريحٍ قديمة لا تموت.

 

كانت السادسة عشرة من عمرها حين وُجدت جدتها ميتة على سريرها، وبجوارها كتابٌ قديم، متآكل الحواف، كُتبت على غلافه عبارة غامضة:

 

“من تحمل النار، ترث الشرر.”

 

أغلقوا القضية على عجل، وأعادوا السبب إلى الشيخوخة والنسيان.

لكن هالة، الطفلة التي شهدت في تلك الليلة الأخيرة نظرةً لم تنسها في عيني جدتها، أدركت أن ما حدث لم يكن موتًا عاديًا.. بل تسليماً لصكٍّ قديم، لا يُكتب بالحبر، بل يُحفر في اللحم.

 

 

مضت السنوات، وبدأت الأحلام.

أحلامٌ ليست كغيرها،

في كل حلم، جريمة.

وفي كل جريمة، جسد ساكن، ويدها هي الممدودة عليه.

 

ظنت الأمر كابوسًا.

لكن حين استيقظت في إحدى الليالي بعد حلمٍ بقتل زميل لها في العمل…

وعلمت في الصباح التالي أنه قُتل بنفس الطريقة، وفي نفس الزمان والمكان…

توقّفت عن الشك، وبدأت في الخوف.

 

 

فتشت هالة في دفاتر العائلة.

لم تجد إلا أوراقًا ناقصة، وأسماء نساء اختفين من شجرة النسب، كأنما تعمدت الذاكرة نفيهن.

أمها؟ ماتت في سن مبكرة.

خالتها؟ محتجزة في مصحٍّ نفسي، يتحدث ملفها الطبي عن “ميول عدوانية حادة”.

جدتها؟ وُجهت لها في شبابها تهمة قتل زوجها الأول، لكن القضية أُغلقت فجأة، كما فُتحت.

 

نساء هذه العائلة، جميعهن، كنّ ظلًا لجريمة لم يعترف بها أحد، ولم يُكملها أحد، إلا حين أتت هالة.

 

 

وحين قصدت طبيبًا نفسيًا في محاولة لفهم ما يحدث، قال لها بهدوء يثير القلق:

 

– الوراثة ليست دائمًا جينات، يا هالة. قد تكون أفكارًا. صورًا متكررة. نمطًا عاطفيًا يُعاد تدويره عبر الأجيال.

وقد يصدق العقل جريمةً لم تقع بعد، فقط لأنها تعيش فيه.

 

سألته والقلق يحاصرها:

– وهل يمكن أن أقتل شخصًا دون أن تكون لي رغبة؟

 

أجاب، دون أن يرمش:

– ربما، لأن الرغبة الحقيقية لا تكون وعيًا دائمًا، بل أثرًا قديمًا يتوارثه الدم.

 

 

وفي إحدى الليالي، رأت في منامها أنها تقتل جارتها العجوز.

استيقظت مذعورة، تركض وقدماها لا تكادان تطالان الأرض.

وصلت إلى بيت الجارة، لتجد سيارات الشرطة، وجسدًا ممددًا في صمت.

ميتة.

بالطريقة ذاتها.

وبدون أثر.

عدا أثر واحد،

في عقل هالة، الذي لم يعُد يفرّق بين الحلم والواقع، بين الإرث والاختيار.

 

عادت هالة إلى منزلها، منهكة، محطمة. لم تعد تستطيع تحمل هذا العبء. اتصلت بالطبيب النفسي، صوتها يرتجف، تطلب منه المساعدة، أي مساعدة. أجابها بهدوء، طالبًا منها أن تأتي إليه في الصباح الباكر.

 

في صباح اليوم التالي، جلست هالة أمامه، عيناها غائرتان، تحكي له ما حدث. استمع إليها باهتمام، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة لم تصل إلى عينيه.

 

– كما أخبرتك يا هالة، الوراثة ليست دائمًا جينات. قد تكون أفكارًا. صورًا متكررة. نمطًا عاطفيًا يُعاد تدويره عبر الأجيال.

 

نهض الطبيب من مقعده، واتجه نحو نافذة مكتبه، ينظر إلى الخارج. أكمل بصوت خفيض، كأنه يتحدث إلى نفسه:

 

– وقد يصدّق العقل جريمةً لم تقع بعد، فقط لأنها تعيش فيه. خاصة إذا زرعت هذه الجريمة بعناية، وسقيت بالخوف والشك، حتى تنمو وتزهر في أعماق الوعي.

 

التفت إلى هالة، التي كانت تنظر إليه بحيرة، ثم أضاف بصوت مطمئن، لكن بعينين تلمعان ببريق غريب:

 

– لا تقلقي يا هالة. سنعمل على هذا معًا. سنحاول أن نفهم هذا الإرث، ونتعامل معه. أنتِ لستِ وحدكِ.

 

أومأت هالة برأسها بضعف، تشبثت بكلماته كغريق يتعلق بقشة. لم تكن تعلم أن كل كلمة قالها، وكل نظرة ألقاها، كانت جزءاً من خطة محكمة، خطة بدأت قبل أن تولد هي.

 

بعد أن غادرت هالة، جلس الطبيب على مكتبه، وفتح درجًا سريًا. أخرج منه ملفًا قديمًا، عليه صورة امرأة شابة تشبه هالة بشكل مخيف. كانت جدتها. ابتسم ابتسامة باردة، ثم همس لنفسه:

 

– كل هذه السنوات.. كل هذا التخطيط.. والآن، اكتملت الدائرة. لم تختر القتل يا هالة، بل القتل اختاركِ.. وأنا من اخترت لكِ هذا المصير.

 

أغلق الملف بهدوء، وعيناه تحملان نظرة انتصار مظلمة. هالة كانت مجرد قطعة أخرى في لعبة شطرنج معقدة، وهو اللاعب الوحيد الذي يعرف قواعدها الحقيقية.

 

أما هالة.. فكانت تعتقد أنها أخيرًا بدأت تفهم نفسها، بينما كانت في الحقيقة.. تنام على إيقاع جريمة لم تخترها، ولكنها أصبحت تتنفسها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!