بقلم:ضياء علي الدعاس
ما أكثر النوافذ التي تطل منها أرواحنا، وما أقل ما نبصره منها حقًا…
كل نافذةٍ كانت يومًا وعدًا، وصارت اليوم إطارًا للغياب.
في القلب نوافذ لا تُفتح إلا على مشهد قديم: شمسٌ تميل على الجدار، رائحة قهوةٍ تسبق صاحبها، ظل شخصٍ لم يعد؛كأن العمر سلسلة من الشبابيك، بعضها يُفضي إلى ربيعٍ مضى، وبعضها الآخر إلى شتاءٍ لا ينقضي.
كانت الحياة ذات يوم تطرق كل نافذة في القلب، فتدخل منها أنفاس الدهشة، وتغمر الغرفة بنورٍ لا يعرف المكوث… لكن النور حين يكثر حتى يستنزف البصر، يترك العين فارغة.وهكذا، حين أفرغ القلب ما فيه من حب عميق، وبقي أمام شبابيكه بلا أحد، صارت المناظر كلها متشابهة، وصار الصمت أوسع من الكلام
تغيرت ملامح المزاج كما تتغير ألوان السماء في نافذةٍ مهجورة؛ لا هو صفوٌ كامل، ولا عاصفة كاملة، بل غيمٌ خفيف يظل معلقًا في الأفق،وصار الانتقاء عادة، والصمت ملاذًا، لأن كثرة العابرين تُفسد ما تبقى من السكون… أما الذين يطرقون الزجاج عبثًا، فهم كالعصافير التي لا تدري أن الداخل لم يعد يفتح أبوابه لأحد.
أغلق النافذة… افتح النافذة… أتركها نصف مفتوحة
أغلق النافذة… افتح النافذة… أتركها نصف مفتوحة.
كأنك تختبر قلبك في كل مرة، هل ما زال يعرف كيف يستقبل الضوء… أم أنه اعتاد الظلام.
وهنا أتذكر ما قرأته ذات صدفه من قول جلال الدين الرومي :
افتح النافذة في قلبك، ودع نسيم الحب يدخل… حتى لو جلب معه الغبار، فهو سيغسل روحك في النهاية.
لكننا نتعلم مع الأيام أن بعض النوافذ، إذا فُتحت بلا وعي، قد تُدخل ريحًا تقتلع ما زرعناه، وتتركنا أمام غرفة فارغة إلا من الغبار نفسه.
الشبابيك هنا ليست خشبًا وزجاجًا، بل هي مشاهد الروح…هناك نافذة تُطل على زمنٍ كان القلب فيه يفيض، ونافذة أخرى على لحظةٍ تعلمت فيها أن تحفظ ما تبقى منك، وثالثة على صمتٍ يلم شتاتك كلما هممت بالكلام
وفي آخر الممر، هناك نافذة لا يطل منها أحد، ولا تطل على شيء… سوى الفراغ…نافذة علمتني أن ليس كل ما يُفتح يُفضي إلى الحياة، وأن بعض النوافذ لا تُترك مفتوحة إلا ليعبر منها الضوء ساعة المغيب، ثم تمضي.
جل ما أردت قوله ليس عن النوافذ وحدها، بل عنا نحن، حين نتبدل من الداخل،عن اللحظة التي نتعلم فيها أن القلب ليس ممرًا عامًا لكل العابرين، وأن الضوء الذي يدخل من النافذة قد يدفئ أو يحرق، تبعًا لمن نتركه يعبر… هو تذكير بأن نحفظ ما تبقى من دفء في أرواحنا، ونمنحه فقط لمن يعرف قيمته، حتى تظل بيوتنا الداخلية عامرة، ولو قل زوارها
إن الشبابيك ليست إلا سجل العمر، نفتح فيه صفحة، ونغلق أخرى، ونعرف أننا مهما بدلنا المشهد، فإن الوجه في الزجاج هو ذاته… نحن، حين لم نعد كما كنا.
وللقارئ الذي أغلق معي آخر نافذة في هذا المقال:
ربما لم يكن الهدف أن نعيد فتح الشبابيك كلها، ولا أن نحطم أقفالها، بل أن نتعلم أي النوافذ تستحق أن تُفتح، وأيها يجب أن تظل مغلقة… حتى يبقى ما في الداخل دافئًا وآمنًا.