أمنيةُ المتعبين في حضرة المستحيل
بقلم:ضياء علي الدعاس
ما أغرب هذه الكلمة الصغيرة: يا ريت…
كأنها نُطقُ الحنين إذا استحال الرجوع، أو تنهيدةُ الروح إن باغتها الأسى على أطلال ذاكرةٍ لا تُنسى
“يا ريت” ليست مجرد حرفين بائسين التقيا في مهب الكلام، بل هي المقامُ الذي ينزل فيه القلب إذا فاته قطارٌ ما، أو سقطت منه لحظةٌ كان يرجوها عمرًا كاملاً
هي الكلمة التي لا تُقال إلا بعد أن تنسدل ستائر المشهد، وتنتهي الأدوار، وتُطفأ الأنوار…
فلا يبقى للمُشاهد إلا أن يعض على روحه، ويُردد:
يا ريتني لم أفعل،
يا ريتني قلت،
يا ريتني بقيت…
يا ريت، يا صدى ما لم يكن، يا ظل ما لن يعود
في أعماقها سكونٌ يضج، وقبحٌ يُغلفه الحنين، كأنها وردة نبتت في قبر…تحاكي المذنبين والعارفين، وتُلامس قلوبًا أدركت أن الإدراك قد جاء متأخرًا…فيها عتاب النفس للنفس، وفيها رجفة الضمير إذا استفاق بعد نومٍ طويل
ليست “يا ريت” لغة الكسالى، ولا مذهب الجبناء…
بل هي عَرضٌ من أعراض البشرية، تُصيب حتى أنبياء الإرادة؛إنها لحظة انكسار الوعي أمام مرآة القدر، حين يرى المرء ما كان يجب أن يكون، ثم لا يملك إليه سبيلًا.
وياللأسى مَن أكثر من قولها، فثمة من يُنفق عمره على رصيف “يا ريت”، يعد أيامه على أصابع الندم، ويطوي ساعاته في دفاتر الحسرة،كأن الزمن لا يسير إلا للوراء، وكأن اللحظة التي فاتت هي الوطن الوحيد، وكل ما بعدها نفيٌ وإبعاد.
لكن، تأمل…
ألَا تُشبه “يا ريت” بذورًا لا تنبت؟
ألَا تُلهينا عن الزرع الآتي ونحن نبكي على حصادٍ فات؟
إن النفس التي تُكثر من “يا ريت”، إنما تُقيم في قبور الذكريات، ولا تنظر إلى الشروق، لأن عينيها ما تزالان غارقتين في ليلٍ مضى.
فيا من أضناك “يا ريت”، لا تسكنها أكثر مما يجب، لا تجعلها ديانتك ولا نشيدك ولا وسادتك في آخر الليل؛
دعها تمر كما تمر كل الأشباح: دون أن تفتح لها الباب، دون أن تدعوها إلى البقاء
أما إن مرت بك ذات ليلةٍ باردة، فتنهدت بها روحك رغمًا عنك…
فأوصِها أن تكون درسًا، لا مسكنًا
واجعل من ألمها عزمًا، ومن عجزها عزيمة، ومن ندائها فعلًا…
فرب “يا ريت” اليوم، قد تُصبح “الحمد لله أني فعلت” غدًا.