مقالات

مصر تُحكم الطوق حول إثيوبيا : لعبة تطويق صامتة تعيد رسم خريطة القرن الأفريقي

✍️ يوحنا عزمي

من الواضح أن المشهد الإقليمي حول إثيوبيا ما بقىش مجرد توتر دبلوماسي عابر ، بل تحول في ظرف قصير إلى عملية تطويق استراتيجية شاملة تُطبق من أكثر من اتجاه. اللي بيحصل دلوقتي – بصدق ومن غير مبالغة – إن أديس أبابا محاصرة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بطريقة غير مسبوقة تقريباً في تاريخها ؛ مش مجرد كلام إعلامي مبالغ فيه ، لكن تحركات ميدانية واتفاقات اقتصادية وسياسية واضحة بتدل على وجود خطة مرحلية لفرض ضغط متواصل على النظام الإثيوبي.

لو رجعنا شوية لوراء هانلاقي بدايات السرد : افتتاح سد النهضة في سبتمبر 2025 كان نقطة الانطلاق اللي أعادت ترتيب أوراق المنطقة ، والمناقشات حول تمويل السد وأطرافه وما صاحب ذلك من خطوات أحادية في تشغيل السد أثناء مواسم الفيضان كانت الشرارة اللي فجرت الأزمة الدبلوماسية والإقليمية.

وبعد الافتتاح اتخذت أديس أبابا قرارات مفاجئة أدت إلى ضخ كميات مياه هائلة دفعة واحدة ، وهو الأمر اللي أثر مباشرة على السودان ومصر وأجبر دول المصب على التحرك الدبلوماسي والاعتراض أمام المحافل الدولية، لكن في نفس الوقت كشف عن ضعف قدرات الردع التقليدية أمام لعبة أكبر بتتعامل بأدوات تفاوتها بين الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري.

من وراء هذا التصعيد العلني، في خطوات عملية مهمة بتدل على استراتيجية محكمة: بداية من عام 2024 مصر بدأت تتصرف بحركة جريئة على مستوى انتشار وتأثير إقليمي؛ أشارت خطى القاهرة إلى توسيع نفوذها في القرن الأفريقي عبر نشر معدات وتدريبات ثم قوات ضمن بعثات لرفع الاستقرار ومكافحة الإرهاب في الصومال ، وهو وجود عسكري مباشر يضع القوة المصرية على حدود إثيوبيا الشرقية ويُعيد رسم موازين النفوذ في تلك البقعة الحساسة، خصوصاً وأن إقليم أوجادين ذي الغالبية الصومالية يمثل نقطة ضعف أمنية داخل خريطة إثيوبيا الداخلية.

في الوقت نفسه ، جاءت الخطوة الاستراتيجية الثانية حينما طوّرت القاهرة علاقاتها مع جيبوتي ، الدولة التي تمثل الشريان البحري الأهم لإثيوبيا الحبيسة ؛ اتفاقات لوجيستية واستثمارات في ميناء دوراليه ومحطات طاقة ومشروعات بنية تحتية ، ممولة جزئياً من دول خليجية، منحت مصر قدرة ملموسة على التأثير في مسارات التجارة واللوجستيات الإثيوبية دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة ، وبذلك صار لدى القاهرة أدوات اقتصادية تضغط على أديس أبابا بطريقة تؤثر على مصدر قوتها الاقتصادية قبل أي شيء آخر.

وأكثر من كده ، العلاقات المتعافية بين مصر وإريتريا، واستضافة قياداتها في القاهرة وتوقيع اتفاقيات تعاون ضمن منطق تأمين الملاحة والاستقرار في البحر الأحمر، أعطت القاهرة ضلعاً شمالياً آخر في حلقة التطويق. هذا التحالف مع إريتريا مهم لأنه يستغل خلافات تاريخية عميقة بين أسمرة وأديس أبابا ، في حين أن التحرك المصري تجاه السودان ـ سواء على مستوى التحالف أو التنسيق السياسي ـ يُغلق الجهة الغربية من الدائرة حول إثيوبيا.

كل هذه الحركات لا تُعلن بصخب على شاشات الإعلام، لكنها تظهر بوضوح حين تنظر لخريطة التحركات والتحالفات : قوات مصرية على حدود الصومال بجوار أوجادين شرقاً، تحالفات مع إريتريا شمالاً ، نفوذ لوجيستي في جيبوتي شمال شرقاً ، ومحور تعاون مع السودان غرباً ؛ كل ضلع من دول القوس دا بيساهم في ضيق الخناق الاقتصادي والسياسي واللوجستي على أديس أبابا.

ردود الفعل الإثيوبية كانت متوقعة : بيانات غاضبة من وزارة الخارجية وهجمات لفظية على ما وصفوه بدول “ضعيفة ومفككة” واتهامات بالتعامل كـ“دمى” بيد قوى إقليمية ، وفي المقابل تحرّكات أديس أبابا للبحث عن منافذ بديلة، مثل محاولاتها الأخيرة لاقتناء شريط ساحلي عبر صفقة مع إقليم أرض الصومال ، اللي بدت خطوة مستفزة وأدت إلى توتر أكبر مع الصومال وفتحت الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية.

الخلاصة اللي أراها الآن أن ما يحدث ليس مجموعة أحداث متفرقة بقدر ما هو لعبة تطويق إقليمي مصرية تُدار بهدوء وحرفية، تهدف في مداها إلى خلق واقع جديد يُجبر إثيوبيا على التفاوض والقبول بحلول دبلوماسية تحت ضغط الأدوات المتعددة ـ العسكرية، اللوجستية ، والاقتصادية ـ بدلاً من الدخول في مواجهة مسلحة مباشرة.

مع ذلك ، لا يعني هذا أن الأزمة انتهت أو أن الطريق واضح أمام حل دائم ؛ ما نراه الآن مجرد مراحل من فرض أوراق على الأرض ، والحسم النهائي سيظل معتمد على عوامل داخلية إثيوبية ، ورد الفعل الدولي ، وتوازن القوى في المنطقة. سأشارك المصادر والتفاصيل التحليلية في تعليقات لاحقة ومقالات قادمة عن دور أطراف خارجية مثل الولايات المتحدة في تمويل وبناء السد، وعن كيف يمكن أن تُستخدم هذه اللعبة الإقليمية في ملفات إقليمية أكبر، لكن المهم الآن أن القارئ يفهم أن ما نشاهده هو عملية محكمة من التطويق تتخطى مجرد البيانات الإعلامية وتعمل على تغيير معالم النفوذ في القرن الأفريقي تدريجياً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!