✍️ يوحنا عزمي
لماذا تبدو علاقة ترامب بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي أقل التزاماً مما كانت عليه سابقاً؟
لفهم ذلك يجب أن نغوص قليلاً في جذور القرار ، بعيداً عن العناوين الإعلامية السطحية ، لأن ما يحدث انعكاس لصيرورة فكرية واجتماعية داخل الولايات المتحدة أكثر منها مجرد خلافات دبلوماسية سطحية.
لنتخيل المشهد من زاوية المواطن الأمريكي العادي: لفترة طويلة كانت الولايات المتحدة تقدم مظلة أمنية ضخمة لأوروبا وحلفاء آخرين ـ قواعد عسكرية متناثرة ، حاملات طائرات ، منظومات دفاع جوي وصاروخي ، وبالطبع الردع النووي.
هذا الدعم لم يكن بالمجان ، بل كلف الخزينة الأميركية مبالغ طائلة حملها في معظمه دافع الضرائب الأميركي ، الذي يرى أحياناً أن نصيبه من الرخاء أقل بكثير من نصيب مواطنٍ في دولٍ أوروبية صغيرة تستفيد من هذه الحماية دون أن تتحمل عبءاً متناسباً من الإنفاق الدفاعي.
النتيجة كانت شعوراً متزايداً بأن هناك تفاهماً ضمنياً : «أنتم تحصلون على الأمان ، ونحن نتحمل الفاتورة»، ومعه تبرز رواية منتشرة في أوساط أمريكية واسعة مفادها أن بعض الدول الأوروبية اعتادت على الرفاهية بفضل هذا الحماية، دون الامتنان أو الدور المتوازن في المسؤولية.
هذا الشعور لم يبق مجرد تذمر ؛ بل تحول إلى وعي سياسي اتخذ أشكالاً انتخابية وسياسية ملموسة. حين يستمع المواطن لأخبار عن إخفاقات اقتصادية محلية ، ارتفاع ضرائب أو انحدار مستوى الخدمات العامة ، ثم يرى أن جزءاً كبيراً من موارد بلاده يذهب لضمان أمن دول أخرى، ينبع رد فعل سياسي طبيعي : مطالبة بإعادة ترتيب الأولويات.
هنا يظهر ترامب ليس كمجرد شخصية سياسية بل كمنبر لصوت شعبي غاضب ومطالب. شعار «أميركا أولاً» لم يكن مجرد عبارة انتخابية فارغة ، بل كان تعبيراً عن رغبة جزء كبير من الشعب الأميركي برؤية موارد الدولة تُعاد توجيهها لخدمة المواطنين المحليين أولاً : تعليمهم ، بنهم التحتية ، الرعاية الصحية ، ودعم رواتبهم ومعيشتهم. لذا فإن تقليل الالتزام تجاه مؤسسات تحظى بتأييد تقليدي داخل النخبة مثل الناتو والاتحاد الأوروبي يُنظر إليه لدى أنصار هذا التيار كخطوة تصحيحية نحو معادلة أكثر عدلاً في الإنفاق على الأمن والسياسة الخارجية.
لكن الصورة ليست أحادية ؛ ففي الولايات المتحدة شبكة مصالح عميقة ـ ما يُسمّى بالدولة العميقة واللوبيات ـ لديها مصالح استراتيجية وتجارية تضررت أو شعرت بتهديد من هذا التغير في الخطاب. لذلك واجه ترامب محاولات مضادة سياسية وقانونية وحتى قضائية ؛ محاولات شوهت صورته وخلقت انقسامات حادة داخل المؤسسة السياسية. مع ذلك لم تطوِ هذه الحركة صفحتها؛ بل إن نجاحها وانتشار خطابها بين شريحة واسعة من الجمهور أعاداها إلى مقدمة الساحة السياسية، وأبقاها قوة فكرية مؤثرة حتى خارج فترة وجود ترامب في منصبه.
وهنا يجب التفريق بين الشخص والظاهرة: ترامب هو الوجه الأكثر وضوحاً لتلك الحركة، لكنه ليس أصلها الوحيد، فالتيار الذي يُطلق عليه اليوم “الترامبية” يمثل تحولاً أعمق في وعي قطاعات من المجتمع الأميركي تجاه كيفية تعامل بلادهم مع العالم.
أؤكد أني لا أقدم هنا دفاعاً أعمى عن أي طرف ، ولا تبريراً مطلقاً لكل سياسات ترامب ؛ بل أحاول تفسير الأسباب والآليات التي أوصلتنا إلى مرحلة نرى فيها تراجعاً في الالتزام التقليدي للنخبة الأميركية تجاه هياكل التحالف القديمة. هذا التراجع هو نتيجة تراكمات مادية ومعنوية :
أموال تُنفق خارجياً تُشعر جزءاً من المواطنين بالغبن ، وخطاب سياسي وجد من يستمع إليه لينقل هذا الشعور إلى قرار انتخابي وتغييرٍ في موازين القوة السياسية. إذا رغبت في فهم المشهد الخارجي والداخلي معاً ، فإن متابعة هذه التيارات وتحليلاتها المتسقة عبر الزمن تكشف عن منطق داخلي واضح : مطالبة بإعادة تعريف الأولويات الوطنية وإجبار الحلفاء على أن يكونوا شركاء حقيقيين بدلاً من متلقين دائمين للحماية.
إذا رغبت في التعمق أكثر فسوف تجد في بقية تحليلاتي أمثلة عملية وتفاصيل تاريخية تؤكد هذه القراءة وتوضح كيف أن الديناميكيات الداخلية الأميركية لها انعكاسات مباشرة على سياسات الحلفاء وعلى توازنات الأمن الإقليمي.




