✍️ يوحنا عزمي
قراءة تحليلية معمقة
الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم ، والذي صرح فيه بأن “إسرائيل هي أسبرطة”، ليس مجرد تصريح شعاري أو خطاب تحفيزي عابر ، بل هو إنعكاس لأزمة عميقة تواجه الدولة العبرية من الداخل والخارج على حد سواء.
ففي استحضاره لمدينة يونانية قديمة اشتهرت بالعسكرة والانغلاق، يرسل نتنياهو رسالة مزدوجة : اعتراف ضمني بتحديات إسرائيل الراهنة ، ومحاولة لإعادة رسم هوية الدولة على أساس القوة العسكرية والانضباط الصارم، بعيداً عن الشرعية الدولية والحوار الدبلوماسي التقليدي.
أسبرطة التاريخية كانت كياناً صغيراً نسبياً ، لكنها فرضت هيبتها على المنطقة بفضل الانضباط العسكري القاسي والاقتصاد المغلق، في مواجهة أثينا التي جسدت الانفتاح الثقافي والتجاري والفكري.
هذا التناقض التاريخي بين القوة والانفتاح أصبح مادة خصبة للاستعارة السياسية على مر العصور ، وها هو نتنياهو يستخدمه ليشير إلى أن إسرائيل لم تعد تستطيع السير على طريق أثينا الممثل للديمقراطية والانفتاح، بل عليها أن تتخذ مسار “الكيان المحاصر”، الذي يقتصر على الإعتماد على السلاح والانضباط الداخلي للحفاظ على وجوده.
لكن التاريخ يعلمنا أن أسبرطة لم تخلُ من الهزائم ، فهي على الرغم من التفوق العسكري الجزئي في فترات معينة، إلا أنها انهارت في النهاية أمام تحالفات أثينا والمجتمعات المحيطة بها، لأنها لم تستطع التكيف مع المتغيرات البيئية والسياسية.
واستدعاء نتنياهو لأسبرطة يحمل إذن تحذيراً ضمنياً : الطريق الذي اختاره قد يكون محفوفاً بالمخاطر، وقد يؤدي إلى مصير مماثل إذا لم تتم مراعاة الديناميكيات المحيطة.
في سياق الخطاب ، تناول نتنياهو موضوع “العزلة” معترفاً بأن إسرائيل تواجه مرحلة جديدة من التحديات على الساحة الغربية.
فالتغيرات الديموغرافية في أوروبا نتيجة الهجرات القادمة من الشرق الأوسط قد زادت من انتقاد الرأي العام للسياسات الإسرائيلية ، خصوصاً فيما يتعلق بالغارات على غزة. وهذا الكشف يوضح أن إسرائيل لم تعد تتمتع بالدعم الأعمى والتلقائي من العواصم الغربية كما كان الحال في السابق.
كما أشار إلى الدور المتنامي لقطر والصين في الإعلام والمنصات الرقمية، مما يخلق ما يمكن تسميته بـ “الحصار الرقمي” الذي يهدد صورة إسرائيل على الساحة العالمية.
هذه العزلة لم تعد مجرد حصار جغرافي أو أمني ، بل أصبحت حصاراً إعلامياً ورمزياً يؤثر على شرعية الدولة في أعين العالم.
خطاب نتنياهو الذي ركز على “الاعتماد على الذات”، من خلال تطوير الصناعات العسكرية المحلية وتقليل الاعتماد على الخارج ، يعكس إدراكه بأن التحالفات الدولية التي ارتكزت عليها إسرائيل منذ نشأتها لم تعد ثابتة أو مضمونة. حتى الولايات المتحدة ، التي يحضر وفدها في كل مناسبة كضمانة استقرار ، لم تعد تمثل دعماً مطلقاً كما في السابق.
وعندما يقول نتنياهو إن “الحياة أهم من القانون”، فهو بذلك يعلن انقلاباً واضحاً في الأولويات : الأمن والبقاء يقدمان على الشرعية والديمقراطية.
هذه الرسالة الداخلية موجهة لمجتمع إسرائيلي يعيش انقسامات حادة حول استقلال القضاء وسيادة القانون، حيث يستخدم رئيس الوزراء لغة الخطر الوجودي لتبرير تقويض المؤسسات.
ردود الفعل الداخلية كشفت الانقسام العميق : فالمعارضة ، ممثلة بيائير لابيد وإيهود باراك ، اعتبرت الخطاب غير مسؤول ويعكس فشل قيادة مرتبكة ، بينما يراه بعض مؤيدي نتنياهو انعكاساً للواقعية.
هذا الخلاف يوضح أن استعارة أسبرطة ليست محل إجماع ، بل تعكس توجه تيار يميني متطرف أكثر من كونها رؤية وطنية موحدة.
على المستوى الدولي ، يعكس الخطاب صورة إسرائيل كدولة خارجة عن القانون الدولي ، تبرر أفعالها بمنطق البقاء، ما يقلل من قدرتها على مواجهة حملات المقاطعة أو الضغط الدولي. وبهذا تتحول إسرائيل من كونها دولة نموذجية ديمقراطياً وابتكارياً ، إلى دولة “عسكرة” تعتمد على القوة وحدها.
نتنياهو يربط كذلك بين العزلة الجديدة والمخاطر الإعلامية والرقمية ، مشيراً إلى أن تهديدات اليوم لم تعد عسكرية فقط ، بل تشمل السيطرة على الصورة العامة في العالم وتأثير الرأي العام على السياسة الدولية.
وفي هذا السياق ، يبرز القطاع الفلسطيني في غزة ليس كمجرد جبهة عسكرية ، بل كنقطة مركزية في الصراع التاريخي كله ، ما يعكس إدراكه أن السيطرة على غزة هي مفتاح استمرار وجود إسرائيل كوحدة موحدة.
الاستعارة بين إسرائيل وأسبرطة تكشف أيضاً هشاشة الداخل: المجتمع الإسرائيلي اليوم منقسم، مع نمو أعداد الحريديم الذين لا يشاركون جميعاً في الخدمة العسكرية، مما يجعل فكرة “المجتمع المحارب” التي يطمح إليها نتنياهو فكرة صعبة التطبيق عملياً. وهذا يضيف بعداً ديموغرافياً إلى خطاب العسكرة ، ويزيد من صعوبة تنفيذ النموذج الأسبرطي المعلن.
اقتصادياً ، يشير نتنياهو إلى الحاجة لتوسيع صناعة السلاح المحلية ، ما يعني إعادة هيكلة الاقتصاد نحو عسكرة أكبر. هذه الخطوة قد توفر بعض المكاسب الاقتصادية والوظائف في قطاع الدفاع ، لكنها في الوقت نفسه تقلل من تنوع الاقتصاد وتعزز اعتماده على المجهود الحربي ، وهو ما قد يضعف الدولة على المدى الطويل.
ثقافياً ، تعكس المقارنة بين أسبرطة وأثينا تحولاً في رؤية إسرائيل نفسها : من دولة مركزية للابتكار والثقافة، إلى دولة تركز على البقاء بالقوة العسكرية والانغلاق على الداخل. هذا التحول قد يرسخ دعم قاعدة يمينية متشددة ، لكنه يقوض جاذبية إسرائيل على الصعيد الدولي ، ويضع الغرب أمام دولة تقول صراحة إنها فوق القانون وتعيش وفق منطق القوة فقط.
خطاب نتنياهو يحمل كذلك رسالة وجودية قوية : الخطر الوجودي على إسرائيل يُستحضر لتبرير السياسات المتطرفة والاعتماد على القوة.
لكنه يواجه في المقابل انتقادات في الغرب ، الذي يرى أن إسرائيل ، رغم قوتها العسكرية والدعم الأمريكي ، ليست على حافة الزوال كما يوحي الخطاب، وأن خطاب “الخطر الوجودي” ما هو إلا ذريعة لاستمرار سياسات الاحتلال والعسكرة.
ختاماً ، خطاب اليوم يمثل نقطة فارقة في الرواية الإسرائيلية : هو اعتراف بالعزلة ، وإعلان عن هوية جديدة ، وتحول نحو نموذج “أسبرطة العصر الحديث”. لكنه يذكرنا أيضاً بتاريخ أسبرطة نفسه ، التي لم تستمر، وأن أي مجتمع يعتمد على القوة فقط يحوي في داخله بذور انهياره المحتملة.
الخطاب إذن يحمل رسالة مزدوجة : قوة وطموح داخلي ، لكنه يلمح أيضاً إلى هشاشة مستمرة أمام التحديات الداخلية والخارجية.