✍️ يوحنا عزمي
في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ المنطقة، تتجه الأنظار الآن نحو مدينة شرم الشيخ المصرية، حيث تُطبخ على نار هادئة تفاصيل اتفاق قد يغير وجه الصراع في الشرق الأوسط بأكمله.
فالمفاوضات الجارية هناك لا تشبه أي جولات سابقة ، إذ تسير تحت رعاية مصرية مباشرة ، وبحضور وفود رفيعة من الولايات المتحدة وإسرائيل ، يتقدمهم جاريد كوشنر ورون ديرمر، في حين تتمسك القاهرة والجانب الفلسطيني بموقف لا يقبل المساومة : وقف شامل لإطلاق النار وانسحاب إسرائيلي واسع من قطاع غزة قبل أي حديث عن تبادل للأسرى.
لكن المفاجأة الحقيقية لم تأت من مائدة المفاوضات نفسها، بل من القصر الرئاسي في القاهرة.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي فاجأ الجميع بتصريح مقتضب لكنه بالغ الدلالة ، قال فيه :
“ندعو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لزيارة مصر والمشاركة في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار إذا تم التوصل إليه.”
جملة واحدة كفيلة بإعادة ترتيب أوراق اللعبة السياسية في المنطقة.
للوهلة الأولى قد تبدو مجرد دعوة بروتوكولية ، لكن ما وراءها من رسائل سياسية يتجاوز حدود المراسم إلى إعادة صياغة كاملة لمعادلة النفوذ بين واشنطن وتل أبيب والقاهرة.
ترامب .. حلم نوبل والفرصة الذهبية
من المعروف أن ترامب يحمل هوساً قديماً بجائزة نوبل للسلام.
فالرجل الذي قال ذات مرة : “أوقفت سبع حروب في سبعة أشهر” يرى أن تجاهل منحه الجائزة يعد إهانة شخصية للولايات المتحدة كلها. بل وصل به الأمر إلى التلويح بإجراءات اقتصادية ضد النرويج ، الدولة التي تحتضن لجنة الجائزة ، في محاولة غير مباشرة للضغط من أجل تحقيق حلمه المؤجل.
هنا يظهر الذكاء السياسي المصري في أوضح صوره.
الدعوة إلى حضور توقيع اتفاق سلام فلسطيني – إسرائيلي على أرض مصر ، ليست مجرد مبادرة مجاملة ، بل صفقة رمزية من نوع خاص :
“تعال يا ترامب ، خذ لحظة السلام التاريخية التي تبحث عنها ، ونحن سنأخذ ضمانة دولية تجعل هذا الاتفاق أقوى من أي ورقة مكتوبة.”
بهذه الخطوة ، يفتح السيسي الباب أمام مشهد سياسي قد يُغيّر كل الحسابات:
فحضور ترامب شخصياً إلى شرم الشيخ سيحول الاتفاق من تفاهمات إقليمية محدودة إلى حدث عالمي موثق بأسم رئيس أمريكي يسعى لتخليد نفسه في التاريخ.
بين القاهرة وواشنطن … رسالة إلى نتنياهو
لكن الدعوة لم تكن موجهة لترامب وحده.
إنها أيضاً رسالة صريحة للعالم كله بأن مصر استعادت دورها المحوري كصانعة للسلام في الشرق الأوسط ، بعد أن كانت الأطراف الأخرى تحاول احتكار هذا الدور.
والأهم أنها ضربة دبلوماسية موجعة لنتنياهو ، الذي بنى استراتيجيته طوال الأشهر الماضية على إطالة أمد الحرب، مستخدمًا المفاوضات كورقة للهروب من محاكمات الفساد التي تلاحقه في تل أبيب.
إذ أن مجيء ترامب إلى مصر يعني ببساطة أن الملف خرج من يد إسرائيل ودخل في دائرة النفوذ الأمريكي – المصري المشتركة ، وهو ما يُفقد نتنياهو آخر أوراقه السياسية.
حينها ، سيتحول المشهد في الإعلام العالمي من صورة “نتنياهو المنتصر في حرب غزة” إلى مشهد أكثر رمزية وتأثيراً :
“ترامب يوقع اتفاق سلام تاريخي في مصر.”
وهي لقطة واحدة كفيلة – حرفياً – بمحو مستقبل نتنياهو السياسي من التاريخ الحديث.
مصر تعود إلى مقعد القيادة
إن قبول ترامب للدعوة – أو حتى مجرد التفكير فيها – يمثل اعترافاً ضمنياً بأن واشنطن قررت أن تكون طرفًا مباشرًا في اتفاق شامل، لا مجرد راعٍ له.
فالمطالب المصرية الآن واضحة :
وقف كامل لإطلاق النار.
إنسحاب إسرائيلي واسع.
ضمانات دولية تُلزم الطرفين بعدم العودة إلى دائرة الدم.
هذا التوجه يعكس إصرار القاهرة على صناعة سلام حقيقي لا هدنة مؤقتة.
وهو ما يمنح مصر مجددًا المكانة التي طالما احتلتها كعرّاب رئيسي لأي تسوية في المنطقة.
الزاوية الأمريكية … ترامب والانتخابات ونوبل
التحرك المصري جاء أيضًا في توقيت بالغ الذكاء.
قبل أيام قليلة فقط من إعلان جائزة نوبل للسلام ، وفي وقت تتعرض فيه الإدارة الأمريكية لانتقادات داخلية حادة بسبب الدعم العسكري لإسرائيل ، تفتح القاهرة أمام ترامب مخرجاً مشرفاً :
أن يظهر أمام ناخبيه والعالم كـ”رجل سلام”، لا كـ”ممول حرب”.
فهو سيقدم المشهد الأمريكي على أنه :
“الولايات المتحدة تصنع السلام في الشرق الأوسط من قلب مصر.”
وهو ما يمنحه رصيداً سياسياً ضخماً يمكن أن يستخدمه لاحقاً في حملاته أو في إستعادة مكانته الدولية.
نهاية الهيمنة الصهيونية؟
المشهد برمته يحمل أبعادًا أبعد من السياسة.
ففي لحظة توقيع محتملة في شرم الشيخ ، حيث يجلس قادة الفصائل الفلسطينية الذين طالما توعد نتنياهو باغتيالهم ، أمام رئيس أمريكي جاء طوعاً للتوقيع ، ورئيس مصري يمسك بخيوط اللعبة ، ستُكتب سطور جديدة في التاريخ الحديث :
من أرض مصر ، انتهى عصر الدم ، وبدأت نهاية الهيمنة الصهيونية على الخطاب الدولي.
لقطة كهذه وحدها كفيلة بإعادة رسم الوعي العالمي بالصراع ، وبضرب الأسس الدعائية التي بُنيت عليها صورة “إسرائيل الديمقراطية “لعقود.
مصر اليوم لا تلعب دور الوسيط .. بل دور المخرج.
المشهد النهائي للسلام – إن تحقق – لن يكون توقيعاً سياسياً فحسب ، بل رسالة للعالم بأن القاهرة لا تزال قادرة على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بروح العدل والعقل.
أما ترامب ، فبين يديه فرصة نادرة ليصنع مجده الخاص، وما بين الطموح الأمريكي والحكمة المصرية ، تقف شرم الشيخ على أعتاب حدث قد يغير التاريخ إلى الأبد.