زينب عبد الحفيظ محمد
همسات تُطلقها الرياح بخلاء الجو، ضحكات وحديث متوعِّد بلغات شتّى، همهمة ترفع رمال البحر عن قاعه بفضول. أصوات تزداد صخبًا مع اشتداد وطأة الأقدام قدومًا، يتدافع صدى الخطوات بممرٍّ ضيّق جانبيه بحر وجبال، ممر ترموبايلي
إن تتبعت الأصوات لوجدت نفسك بمنتصف الأسبرطة اليونانية… الفضول يتدافع، يدفع شغف عقول مفعمة بالمعرفة. صفحات تتوالى وتُقلَب بسرعة متجاهلة حروبًا وأحداثًا مهولة، وتقف أخيرًا هنا تحديدًا، بمدينة دولة اليونان قديمًا، إسبرطة الصامدة، القرن الخامس قبل الميلاد.
شتاءٌ بارد ممتلئ بتخبط الأقدام، ليس من شدّة صقيعه، لكن خوفًا من اهتزاز الأرجاء. اختلجت النفوس عندما رُفعت شرائع الحرب وتجمّعت الرجال، تاركين أحضان نسائهم وفرائشهم الدافئة، وصغارهم الباكين. دوَّت صفّارات الإنذار، ودوى خلفها النحيب.
انساب صوتٌ وخيم من سلالة مالكة، جهورٌ يخاطب رعيته، المتكدّسين بتلاصق يحتمون ببعضهم البعض:
الأرض، إن كانت تحمل أصحابها من قدم الزمان، وتمُدّهم بالخيرات وتغمرهم بالهواء النقي والأمان، فلا تَعُد مجرّد أرض، بل تستحال إلى شرف إن مسَّ، خَرَّت له ستائر الرجال. ستبقى الأرض مُحَمَّلة بجنسية واحدة، وإن تكاتفت أمامها البلاد.
الأجواء قاتمة، ليلية كئيبة كملابس الجيش الموحّد الممتلئ بالحديد. ألسنة السيوف تتباهى بغرور تحت ألسنة المشاعل، وألسنة البعض لم تخلُ من الهمهمات اللاذعة. تسرّب صوتٌ من بين التكاتف: ليونيداس. يسخر منّا، يحاول تشجيع سبعة آلاف رجل ليواجهوا عددًا لا حصر له من الفرس المدرّعين، وأضاف بغضب:
“الحرب غير عادلة… والموت حتمي.”
الحرب غير عادلة… والموت حتمي.
ردّدها ليونيداس، فاضطرب قائلها الأول حتى ظن أن صوته قد سُمع. أكمل:
“أعرف هذا، أنا لم أقسم لكم بالنصر، على مليون شخص بشرذمة، لكن يا سادة… الرجال هنا كالقذائف المدربة، تعرّفنا على هذا منذ الصغر، توارثنا أن القوة والهمة سلاح مخيف بجانب ذخيرتنا. أثق أن الرجل هنا بقوة عشرة منهم.”
وأضاف بتجبّر:
“أعي بهذا!”
التقطت الآذان الأصوات بوضوح الآن، احتكاك الدروع الفارسية على بعضها البعض مخيف، صوت آتٍ من جهة الشرق كأنه طنين لا ينتهي.
النيّة واضحة: ضمّ اليونان إلى الإمبراطورية الأخمينية، تلك التجمهرَة الممتدّة من الهند شرقًا حتى مصر وليبيا غربًا. السيادة آنذاك للفرس، وقد رأوا أن آخر منطقة مستقلّة خلف نفوذهم، هي هذا الجيش الصغير الذي يقف لهم شوكةً حادّة تمنعهم من السيطرة الكاملة على البحر المتوسّط الشرقي.
النوايا الخائبة كانت وضع اليد الكبرى على الأراضي، نوايا شيطانية ممتلئة بالغرور المطلق. الملوك يُخدَع باطن عقولهم عندما تتباهى قوّتهم الكامنة بامتداد بصريّ لا حدّ له من الخيول والجيوش المكتسبة من الحروب. إبادة الهوية شيئٌ مظلم ظالم.
الهواء يشتدّ صفيره، والممرّ يمتلئ بالبيادق المختلفة الصُنع: بابلية، تركية، هندية، وأيضًا مصرية. سماء غائمة، وأرض تترصّد الحكايا، وتتهيّأ لتغيّر الهوية… في واحدةٍ من أكثر المعارك المخلّدة في التاريخ غرابة.
قائدٌ قوي، يعرف كيف يروّض خوف رجاله، ويضعهم في أضيق مكان قد تُبطئ به طواحين الحرب، ليعادل بين العدد المتدفّق عنوةً وبين جيشه القليل. يعرف مخاطرة اتساع الرقعة مع ضخامة الخصم، لكنّه صمد ثلاث ليالٍ يقاتل بعزيمة من يندفع ليمنع الغرباء من الولوج إلى قلب دولته.
يقف بلا خوف في رأس المقدّمة، يلوّح بوعيد، ناقمًا على خِسّة الأجانب.
إسبرطة الصامدة وأثينا تتكاتفان لردع شرّ العدو تحت شعار: لا عودة بلا نصر.
أما بقية المدن آنذاك، فقد كانت متفكّكة، ضعيفة الترابط.
قشعرّ بدني — لا أعلمُ هل من برودةِ الأجواءِ أم من ما تجوبه عيناي من خطابٍ ناريٍّ، ممتلئٍ بالغضب، ينساب من فمِ ملكِ الفرس، الابنِ البارِّ للأخمينية، الذي يكملُ خطةَ أبيه ويسيرُ على الدربِ الذي انهزم فيه “دارا” في ماراثون، ليحقق وصيته في توسيعِ إمبراطوريةِ الفُرس.
صاح زركسيس بصوتٍ جهوريٍّ: «اقتلوا الجميع! لا أريد أن يبقى مناضلٌ ولا مقاومٌ. استولوا على الأراضي بأشدِّ اللغاتِ وأقساها، فالنصر لنا!» وعلت صرخته المتشدِّدة: «لن نرتضِ الهزيمةَ أبدًا!»
«اقتلوا الأسيادَ والجنودَ وكلَّ من يحمل سلاحًا يونانيًا. أريد العتامةَ أن تنقشعَ بأنوارِ السيوفِ المرمية على الأرض الساحلية.»
طالت المقاومةُ وعجزت الحجج. وعلت مجددًا تلك الألسنُ المعترِضةُ: مقاومةٌ عاقرةٌ لا تجيد نفعًا، فالجبالُ لا تسقطُ إلا بنخرِ ساكنيها من الصعاليك والحشرات. خيانةٌ أرادت أن تُبقي بذرةَ مقاومةٍ تحت قبضة الغزو: إفيالتس.
هو من ألقى الجملةَ في خطابِ الملك الأوّل، وأشارَ للفُرسِ إلى الممرِّ السريِّ ليباغتوا الإسبرطيين من الخلف. وقعت القلوبُ وتشتّتت عزائمُ الرجال؛ أمرَ ليونيداسُ خُلفاءه بالرجوعِ، وبقي هو وثلاثمئةٍ من جنوده ليعرقلوا الأقدامَ المتجهةَ بشهوةٍ لامتلاك أرضٍ ليست لهم. القتال هنا ليس للنصر، بل لاكتساب القليل من الوقت ليلملم الضعفاء خوفهم وليشموا رائحة الغبار المحترق ليعرفوا أن الهزيمة قد وقعت.
الأفواهُ الساخرةُ أشدُّ جدارةً بالخيانة؛ لا تأمن لمن يقلل من قوّتك. مسرحيةٌ دمويةٌ كرّسها التاريخ، وخُطّت أحداثُها بقلمٍ من ذهب: ملكٌ شجاعٌ، وجنودٌ مخلصون، ومندسٌ خانعٌ. خائنٌ واحدٌ يستطيعُ أن يقتلَ الجميعَ بقفلةٍ سريةٍ تقطعُ رقبَ الحرية.
دخل الغزوُ بهيْبَةٍ إلى اليونان بعد قتل ملكها… لكن الحرب لم تنتهِ هنا. صمودُ ليونيداس رفعَ معنوياتِ شعبه، وأعاقَ عنهم الضربةَ الأولى. استرجعت اليونانُ قوتها فيما بعد، وأعادت الكفاحَ نصراً في معركةٍ بحريةٍ حاسمةٍ (معركة سلاميس) استعاد فيها الأسطولُ اليونانيُ توازنه ونقَضَ هيبة الفرس.