ابداعات

رجل خفي يراه الجميع

 

شريف جلال القصاص 

 

استيقظ ذات صباح على فراغ يطبق على صدره، لم يكن الأمر مجرد وحدة، بل إحساس ساحق بأنه صفحة نُزعت من كتاب الحياة، مُحيت أسطرها بعناية حتى لم يبقَ سوى البياض.

 

مدّ يده إلى هاتفه: لا مكالمات، لا رسائل، لا أسماء.

فتح حاسوبه: البريد فارغ، الحسابات اختفت، كأن أحدًا محا أثره من العالم. لم يبقَ حوله بشر؛ لا أصدقاء، لا أقارب، لا خصوم، جذور منزوعة من تربة الذاكرة.

 

على الحائط قصاصات ممزقة بعناية، وصور هوياتٍ ووثائق رسمية تبدو واقعية أكثر من اللازم، لكنها معزولة، بلا سياق. وبينها ورقة غريبة تشبه عقدًا ناقصًا، مكتوبًا بأحرف مقطعة ورموز مبهمة.

لم يكن فيها سوى بند واضح واحد:

“لقد وافقت بكامل إرادتك، ولا سبيل للتراجع.”

 

 

كانت المأساة الحقيقية ليست في فقدان الأرقام والملفات، بل في أن ذاكرته نفسها تحولت إلى صحراء بلا علامات يهتدي بها. حاول أن يستحضر وجهًا واحدًا… فلم يستطع. كأن الظلال كلها انسلت من رأسه.

أطبق الصداع على جمجمته كأن رصاصًا يخترقها، تمتم لنفسه:

 

 “ربما كابوس… أو أثر عقار… أو مزحة ثقيلة من مجهول.”

 

 

دخل العيادة بخطوات مترددة، جلس قبالة الطبيب بينما الشك يثقل الهواء بينهما.

فتح الطبيب دفتر ملاحظاته وقال ببرود:

– “تقول إنك لا تتذكر شيئًا؟ لا أهل، لا أصدقاء، لا ماضٍ؟”

أومأ بصعوبة، وكأن الكلمات تُسحب من حلقه.

– “أستيقظ كل صباح وكأنني نبتُّ للتو، بلا خيط، بلا وجه، بلا ذكرى واحدة.”

 

رفع الطبيب حاجبه باستخفاف:

– “الذاكرة لا تُمحى هكذا. ربما توتر أو صدمة نفسية.”

ردّ بصوت مبحوح:

– “لو كانت صدمة، لبقي أثرٌ واحد… اسم، وجه، شيء! لكنني ورقة بيضاء. ألا يبدو ذلك غريبًا حتى عليك؟”

 

سكت الطبيب لحظة ثم قال بنبرة تأمل:

– “سمعت في مهنتي حكايات أغرب؛ أشخاص استيقظوا يتحدثون لغات لم يتعلموها، وآخرون رأوا أحلامًا متطابقة بتفاصيلها. لكن حالتك مختلفة… ليست إضافة لشيء قديم، بل محو كامل.”

 

حدّق فيه الرجل بحدّة، كأنه يتوسل تصديقًا:

– “أتقول إنني أختلق هذا؟”

– “لا. أصدقك أنك تشعر به. لكن… لِمَ قد يحدث؟

ربما الحياة، بخياناتها وقسوتها، أجبرت عقلك على أن يبتكر خلاصه.”

أطرق برأسه هامسًا:

– “أو ربما… جرائمي أنا أجبرتني على النفي.”

دوّن الطبيب العبارة في دفتره وقال:

– “كلا الاحتمالين وارد. أنت ضحية… أو جلاد يدفع ثمنه.

لكن الأهم ليس الماضي، بل: ماذا ستفعل الآن؟”

– “سأبحث عن نفسي.”

ابتسم الطبيب نصف ابتسامة وقال:

– “ابحث، نعم. لكن تذكّر، ربما لا تجد شيئًا، وربما الأفضل أن تعتبر نفسك مولودًا جديدًا. صفحة بيضاء حقيقية… تكتب فيها رجلًا أفضل، سواء كنت مظلومًا أو ظالمًا.”

 

خرج من العيادة وهو يشعر أن الكلمات اخترقت صدره أعمق من الدواء الذي وصفه الطبيب.

كان كمن يلعب لعبة الاختباء مع ذاته، فريسة يسهل اصطيادها. ازدادت الهلاوس: أصوات تناديه من العدم، أحلام لوجوه بلا ملامح، شوارع تنهار وتبتلع مبانيها.

 

 

في المساء، وبينما يتصفح الأخبار، تجمّد.

صورته تتصدر صحيفة محلية، ثم صفحات على وسائل التواصل.

أسفلها إعلان يقول:

 

“هل تعرف هذا الرجل؟

إذا كنت تملك أي ذكرى تربطك به، اتصل فورًا.

مكافأة كبرى بانتظارك.”

 

 

ارتجف. الإعلان لا يبحث عنه، بل عن أثره.

بدأت الاتصالات تنهال:

– “رأيتك في حلمٍ قديم…”

– “وجهك مألوف، لكن لا أذكر متى…”

– “كنتَ جزءًا من حياتي… ثم اختفيت.”

 

كل صوت يحمل ومضة، إحساسًا عابرًا، دون دليل. كأن الناس جميعًا يلمحون طيفًا مرّ بهم ثم تبخر.

 

في جيبه ورقة قديمة — نفس العقد الغامض، وعلى هامشه رمز صغير يشبه شفرة.

قادته العلامة إلى بيت مهجور على أطراف المدينة.

هواؤه ثقيل، جدرانه مغطاة بصور أشخاص بلا وجوه، أجساد صامتة تنظر إليه بلا عيون.

شعر أن البيت كله يراقبه.

 

في غرفة صغيرة وجد صندوقًا مغلقًا، داخله رسالة بخط يده:

 

 “إلى نفسي التي ستبحث يومًا:

لا تفرح بوصولك، فهذا المكان سراب وضعته لك.

كنتُ أعلم أنك ستضعف وتفتش عنك، لذلك حبستك في متاهة صنعتها أنا، لأمنعك من الوصول إلى الحقيقة.”

 

 

تساقطت الورقة من يده. وفجأة ومضت صورة في ذهنه:

شاشة مليئة بنقاط متصلة بخيوط متشابكة — شبكة عصبية تشبه خرائط الدماغ.

همس لنفسه:

 

 “كنت أعلم أن الذاكرة ليست فردية، بل نسيج جماعي. كل إنسان عقدة في شبكة أوسع. ولهذا… لم يكفِ أن أمحو ذاكرتي وحدي. كان عليّ أن أقطع كل خيط يربطني بالآخرين.”

 

 

تذكّر الخوارزمية التي صممها: أداة تبحث عن أي خيط يربطه بالعالم — صورة، اسم، ذكرى — ثم ترسل نبضة تشويش دقيقة تمحو الصلة.

النتيجة؟ لم يُمحَ العالم، بل انكسر الجسر المؤدي إليه.

حين يصل الناس إلى اسمه أو وجهه، تتوقف ذاكرتهم كالنهر قبل جرفٍ غائر.

 

ضحك بمرارة:

 

 “لقد صنعت قفصي بيدي… لم ألغِ العالم مني، بل ألغيت نفسي منه.”

 

 

الرسالة تتابع:

 

“أنت المؤسس. أنت من اخترع هذه الآلة.

وأول من جربها على نفسه.

لا تبحث أكثر… فلن تجد سوى ما تركته لك.”

 

 

 

جلس على الأرض يبتسم بمرارة:

 

 “هربتُ من حياة لا تُطاق… فبنيتُ سجني الأبدي بيدي.”

 

 

 

خرج من البيت مترنحًا. الشارع كما هو، الناس كما هم، لكن لا أحد يلتفت إليه. لا أحد يتذكره.

لقد عرف الحقيقة كاملة: هو الرجل الخفي الذي يراه الجميع، دون أن يراه أحد حقًا.

 

ومنذ ذلك اليوم، يسمع صدى جملة واحدة في كل ما حوله:

 

 “هنّئ نفسك إذن… لقد نجوت من حياتك القديمة، ظالمًا كنت أو مظلومًا، لتعيش موتك الأبدي.”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!