✍️ يوحنا عزمي
تخيل أنك تستيقظ ذات صباح لتكتشف أن ثروتك فقدت نصف قيمتها ، دون أن تخسر شيئاً فعلياً أو ترتكب خطأ واحداً. الأمر لم يكن بسبب أزمة اقتصادية محلية أو خطأ في استثمارك ، بل لأن الولايات المتحدة الأمريكية قررت ، ببساطة ، أن تُعيد ضبط النظام المالي العالمي لصالحها .. على حسابك أنت ، وعلى حساب كل مواطن في هذا الكوكب.
في أروقة واشنطن ، وداخل مكاتب مغلقة تحرسها السرية والدهاء ، تُحاك خيوط خطة مالية جهنمية هدفها الأسمى أن تُحمل العالم كله فاتورة الديون الأمريكية التي وصلت إلى حدود غير مسبوقة في تاريخ الاقتصاد الحديث.
فالديون التي أغرقت أمريكا حتى أذنيها لم تعد تُهدد مستقبلها فقط ، بل باتت تهدد وجودها كإمبراطورية تقود النظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك ، يبدو أن واشنطن وجدت أخيراً “الطريق الخلفي” للهروب من الانهيار … والباب الخلفي هذا اسمه العملات الرقمية.
القصة بدأت في مؤتمر الشرق الاقتصادي الذي انعقد في مدينة فلاديفوستوك الروسية ، حيث فاجأ المستشار الاقتصادي المقرب من الرئيس بوتين ، “أنتون كوبيـاكوف” الحضور بتصريح خطير.
الرجل أعلن أن الولايات المتحدة تُجهز سراً لخطة تحويل ديونها إلى ما يشبه “سحابة رقمية” من العملات المشفرة تمهيداً لتقليل قيمتها أو إلغائها فعلياً من النظام المالي العالمي دون أن يشعر أحد.
تصريح بدا وقتها كأنه من نسج الخيال أو مجرد “نظرية مؤامرة” جديدة .. لكن المفاجأة أن الفكرة لم تولد في روسيا بل كانت قد نُسجت في عقول أثرياء أمريكا أنفسهم قبل سنوات.
أحد أبرز هؤلاء كان الملياردير الأمريكي “مايكل سايلور” مؤسس شركة “مايكروستراتيجي” ، وأحد أضخم المستثمرين في عملة “البيتكوين”. يمتلك سايلور أكثر من ستمائة ألف عملة بيتكوين ، أي ما يقارب 71 مليار دولار.
هذا الرجل دعا في نهاية عام 2024 إلى خطوة مجنونة، حين نصح الرئيس دونالد ترامب علناً بأن تبيع الولايات المتحدة كل ما تملكه من ذهب ـ أكثر من ثمانية آلاف طن وتشتري بثمنه بيتكوين.
قد يبدو الأمر عبثياً ، لكنه في الواقع خطة مدروسة بإتقان. فبحسب رؤية سايلور، إذا سيطرت أمريكا على معظم شبكة البيتكوين في العالم ، فستصبح هذه العملة الرقمية الجديدة هي “الذهب الحديث” الذي يُحدد قيمة الثروة العالمية.
وبمجرد أن تعتمد واشنطن هذا المسار ، ستنهار القيمة التاريخية للذهب ، خصوصًا لدى الدول التي تعتمد عليه كاحتياطي استراتيجي مثل الصين وروسيا ، بينما ستقفز قيمة البيتكوين إلى أرقام فلكية ، لتُصبح الأصول الرقمية في قبضة أمريكا وحدها. عندها فقط ، ستتحول الديون الأمريكية إلى مجرد أرقام بلا معنى ، لأن الولايات المتحدة ستكون المتحكم الوحيد في ثروة العالم الرقمية الجديدة.
لكن واشنطن ، كالعادة ، لا تُعلن نواياها مباشرة. فبينما يتحدث العالم عن البيتكوين ، كانت الإدارة الأمريكية تُهيئ الأرضية لخطة أكثر خفاءً ودهاءً :
العملات الرقمية المستقرة ، أو ما يُعرف بـ Stablecoins، مثل USDT وUSDC. هذه العملات تبدو في ظاهرها آمنة، لأنها مرتبطة بالدولار الأمريكي الحقيقي ، لكنها في جوهرها جزء من “آلة تمويل” خفية لمديونية أمريكا نفسها.
كل دولار رقمي من هذه العملات مدعوم بسندات خزانة أمريكية ، أي أن كل من يملك USDT في أي دولة من العالم، هو في الحقيقة يحمل جزءًا من دين أمريكا. ومع الوقت ، كلما زاد استخدام هذه العملات الرقمية في الأسواق العالمية ، زاد تمويل الديون الأمريكية دون أن يدرك أحد.
لكن كيف تخفض أمريكا ديونها من الأساس؟
الجواب بسيط وخبيث في الوقت نفسه : بالتضخم.
فالتضخم ، في جوهره ، ليس إلا وسيلة “ناعمة” لتقليل قيمة الدين دون إلغائه. تخيل أن أمريكا اقترضت منك 100 دولار ، لكنها طبعت لاحقًا ضعف هذا المبلغ. الآن أنت ما زلت تملك مئة دولار ، لكنها فقدت نصف قيمتها الشرائية.
النتيجة؟ لقد سددت أمريكا دينها لك .. لكن بنصف الثمن فقط. هذه هي الخدعة الكبرى التي تُمارسها واشنطن منذ عقود ، وها هي تستعد الآن لتصديرها للعالم كله من خلال العملات الرقمية المستقرة.
فحين تنتشر هذه العملات عالمياً ، وتبدأ أمريكا بطباعة المزيد من الدولارات الرقمية أو “التوسع التضخمي” فإن الخسارة الناتجة عن انخفاض القيمة لن يتحملها المواطن الأمريكي وحده كما كان يحدث سابقاً ، بل سيُوزع الألم على كل من يستخدم الدولار الرقمي في العالم.
التضخم ، في هذه الحالة ، سيتحول إلى “ضريبة خفية” يدفعها كل فرد على هذا الكوكب يمتلك عملة رقمية مرتبطة بالدولار.
هذه ليست المرة الأولى التي تخدع فيها أمريكا العالم. ففي عام 1971، قطع الرئيس ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب فجأة ، منهياً ما كان يُعرف باتفاقية “بريتون وودز” ومعلناً عملياً أن أمريكا لن تُعيد الذهب الذي كانت تحتفظ به كضمان لدول العالم.
كان ذلك الحدث التاريخي صدمة اقتصادية كبرى ، عُرفت لاحقاً بـ “صدمة نيكسون”، وهو نفس السيناريو الذي تخشى الدول الكبرى اليوم تكراره في نسخته الرقمية الحديثة.
لهذا السبب ، بدأت دول مثل الصين وروسيا والهند ومصر تتجه مؤخرًا إلى شراء الذهب بكميات ضخمة ، كملاذ آمن ضد اللعبة الأمريكية الجديدة.
فمصر وحدها ـ بحسب الإحصاءات ـ اشترت أكثر من 34 ألف أونصة ذهب خلال شهري يناير وفبراير 2025 فقط، في محاولة لتقوية احتياطياتها من المعدن الأصفر بعيدًا عن الدولار. هذه الخطوة ليست عشوائية أبداً ، بل جزء من سباق عالمي نحو “نظام مالي موازٍ” تقوده دول تحالف “البريكس”، الذي يسعى لاستبدال هيمنة الدولار بنظام جديد يعتمد على الذهب كمرجع للقيمة ، بدلاً من العملات الورقية أو الرقمية التي تتحكم فيها واشنطن.
هكذا ، وبينما تنشغل الشعوب بقضاياها اليومية ، تُعاد كتابة قواعد اللعبة المالية الكبرى في الخفاء. أمريكا تُحول ديونها إلى هواء رقمي وتُقنع العالم بتمويله طوعاً ، بينما تسعى قوى أخرى إلى بناء جدار ذهبي يحميها من الطوفان القادم.
لكن السؤال الأخطر يبقى : من سينتصر في النهاية؟
هل ستنجح أمريكا في سرقة العالم مرة أخرى كما فعلت عام 1971 ؟ أم سيستيقظ العالم هذه المرة قبل أن تُسحب البساط من تحت قدميه؟
الإجابة .. ما زالت تُكتب الآن ، في مكاتب لم يُسمح بعد لأحد برؤيتها.




