✍️ يوحنا عزمي
السودان يقف على حافة انفجار كبير قد يغير ملامح المنطقة بأسرها، وما يحدث الآن على حدود مصر الجنوبية لا يقل خطورة عن أي تهديد إقليمي آخر ـ بل ربما يتخطاه.
هناك أحداث مروعة تُرتكب في الفاشر ومناطق دارفور لم تأخذ نصيبها من الحديث في الإعلام ، رغم أن تداعياتها قد تمتد إلى أعماق الإستقرار الإقليمي.
ما سأحكيه هنا محاولة لتجميع ما وصل إلينا من معلومات وصور عن السقوط التدريجي لمؤسسات الدولة في غرب السودان ، والتحول الممكن إلى كيان متمرد على حدودنا.
البداية تعود فعلياً إلى ما بعد إسقاط نظام البشير في 2019؛ لحظة أمل قُدر لها أن تفتح صفحة انتقالية نحو حكم مدني، لكنها سرعان ما تحولت إلى صراع بين شريكين مسلحين كان لهما اليد الطولى في المشهد : الجيش الوطني بقيادة عبد الفتاح البرهان ، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي».
التحالف الهش بينهما انهار تدريجياً عندما فشلت اتفاقات الدمج بين القوات ، وتحولت خلافات على الجداول الزمنية والهيكل إلى مواجهة مسلحة شاملة اندلعت في أبريل 2023، ومنذ ذلك الحين دخل السودان في دوامة عنف وهشاشة لم نشهد مثلها منذ عقود.
في قلب هذا الصراع تقع دارفور ، الإقليم الشاسع الثري الذي يمتد على مساحة تساوي أكثر من ربع السودان ، ويطل على حدود عدة دول ويكاد يلامس حدود مصر الجنوبية.
السيطرة على دارفور ليست مجرد مكسب عسكري ؛ إنها بوابة لثروات طبيعية هائلة ـ معادن ، نفط ، وأحيانًا موارد مائية جوفية ضخمة ـ إضافة إلى موقع استراتيجي يسمح بتهيئة واقع سياسي جديد على حدود دول مجاورة.
ولذلك كانت الفاشر ، عاصمة شمال دارفور، الهدف الأخير الذي يقف بين قوات الدعم السريع وطموحها في الهيمنة على الإقليم. الحصار الطويل الذي فرضته هذه القوات على المدينة لم يأتِ من فراغ ؛ هو جزء من مخطط أوسع لتقويض أي مقاومة وقطع الطريق أمام إعادة توحيد السيطرة العسكرية للبلاد.
لكن ما يحدث داخل المدينة يتجاوز الحسابات العسكرية إلى صنوف من الفظائع التي تفوق الوصف. تقارير وصلت عن قتل جماعي واغتصاب ممنهج واضطهاد مريب للمدنيين المحاصرين ـ مشاهد تُعيد إلى الأذهان أسوأ صفحات التاريخ الإنساني.
هناك إشارات إلى إجبار السكان على حفر قبور جماعية قبل أن يُقتلوا، وإلى ممارسات وحشية تُقدم كأدوات لإخضاع السكان. تلك الصور من الرعب والظلم تندمج مع واقع إنساني يائس : نقص في الدواء والغذاء ، وانهيار كامل لخدمات الصحة والإنقاذ ، حتى إن أقراص منع الحمل أصبحت في مرحلة ما واحدة من أكثر الاحتياجات تداولًا بين المدنيين ، في دلالة مروعة على طبيعة الجرائم التي تُرتكب.
هذا كله لا يحدث في فراغ ؛ فثمة شبكة مصالح إقليمية ودولية تبدو متداخلة مع مسارات التمويل والتسليح. في سياق الحديث عن الجهات التي قد تستفيد أو تدعم مثل هذا التمرد المسلح ، تُثار اتهامات وتكهنات حول مصادر تمويل خارجية ساعدت في إبقاء ميليشيات الدعم السريع على قيد القتال ، ما أضفى على الصراع بعدًا استخباراتياً وسياسيًا يتجاوز الحدود السودانية.
الاتهامات والتقارير الصحفية تناولت دور فاعلين إقليميين في تزويد عناصر مسلحة بالموارد التي تحتاجها للحفاظ على وتيرة هجومها، وهو ما يثير تساؤلات خطيرة عن نوايا تحويل أجزاء من السودان إلى كيان مستقل أو تابع لمصالح لا علاقة لها بمصالح الشعب السوداني ، بل قد تهدد أمن الدول المجاورة.
لو نجحت هذه القوى في تثبيت سيطرتها على دارفور، فالمعنى قد يكون عملياً تقسيم السودان إلى شطرين : شرق يخضع لهيمنةٍ تقليدية ربما تعيده إلى إطار الدولة المركزية، وغرب يكون تحت حكم متمرد أو كيانٍ مسلح يملك الموارد والموقع ليصبح لاعباً إقليمياً. هذا السيناريو له آثار مباشرة على مصر ؛ حدود مشتركة قد تتحول إلى جبهة أمنية جديدة ، وتهريب موارد أو مرتزقة، وتحويل تيارات اللاجئين إلى تدفقات هائلة تفوق قدرة أي نظام استيعاب محلي أو إقليمي.
الأهم من ذلك أن وجود كيان مسلح ممول قاد على الحدود الجنوبية لمصر قد يعيد تشكيل التحالفات الإقليمية ويعيد فتح ملفات قد ظنناها مغلقة.
ولأن الصورة معقدة ، فإن أي تحليل لا يأخذ بعين الاعتبار جذور القوى المحلية ـ تاريخ حميدتي العسكري والسياسي، مساره من قائد قبلي إلى زعيم قوة مسلحة موالية للدولة ثم مستقلة عنه ـ سيبقى ناقصًا. الرجل الذي بدأ كراعي وتحول إلى قائد «الجنجويد» ثم إلى رأس هيكل زادته ثروات ونهب الموارد نفوذًا ، ليس مجرد شخصية داخلية بل معقدة الصلات والإمكانيات ، واستغلاله لتجارة الذهب والموارد الأخرى جعل منه لاعباً قد يمتلك القدرة على تمويل حرب طويلة أو دعم مشروع انفصالي.
ما أود أن أوصيك به ، كمواطن وكمطلع على المشهد ، هو ألا نستهين بما يحدث في الفاشر ودارفور. ما يحدث هناك ليس مشكلة محلية يمكن أن تعالجها الأطراف السودانية فيما بينهم فحسب؛ إنه تهديد إقليمي محتمل يتداخل مع مصالح دول جوارٍ كبيرة ، ويستدعي يقظة إعلامية ودبلوماسية أكبر. الحاجة الآن ـ أمام هذه المأساة المستمرة ـ إلى كشف حقيقة ما يجري ، ونقل الصور والحقائق بجرأة ، ومساءلة كل من يمكن أن يكون له دور في تمويل أو تعزيز العنف. لأن الصمت الدولي والإقليمي هنا لا يعني سوى مساحة أكبر للانفلات والتصاعد ، وما قد يبدو اليوم تمردًا محلياً قد يتحول غدًا إلى أزمة لا تستثني أحدًا.




