✍️ يوحنا عزمي
في الدائرة الثالثة بمحافظة قنا ، هي أشبه بعرضٍ سياسي كبير ، تتكرر مشاهده كل بضع سنوات بنفس الدقة ، بنفس الأسماء ، وبنفس النهايات.
يتغير فقط الشعار .. أما النتيجة فثابتة كصخر الجبل الشرقي.
منذ اللحظة الأولى ، بدت المنافسة في الدائرة الثالثة أشبه بسباقٍ يركض فيه الجميع نحو خط نهاية محدد سلفاً.
المرشحون تعبوا ، جالوا القرى ، صافحوا الناس ، وزعوا الوعود ، لكن الصندوق — كعادته — كان أذكى من الجميع، يعرف إلى أين ستذهب الأصوات قبل أن تُكتب.
المنافسة … شكل بلا روح
على الورق ، هناك منافسة شرسة.
خمسة مرشحين كبار ، قبائل تتحرك ، ولجان انتخابية مزدحمة.
لكن وسط كل هذا الصخب ، تسأل نفسك :
هل كان الصندوق هو الحكم .. أم كان مجرد شاهد على مشهدٍ محفوظ؟
الناس شاركت ، نعم ..
لكن المشاركة لم تكن تعني التأثير ، بل الحضور الإجباري في مسرحية لا يمكن الانسحاب منها.
المرشح “الأقوى” فاز كما كان متوقعاً ، وبفارقٍ كاسحٍ لا يصدقه حتى أنصاره.
كأن الأرقام لا تصف إرادة الناس ، بل انضباط المشهد العام.
الشارع يقول كلمته … بصوتٍ خافت.
في المقاهي ، وفي دوائر النقاش الصعيدية.
الحديث لا يدور عن السياسة ، بل عن “الاحتمالات” و”الترتيبات” و”الإشارات” التي سبقت الاقتراع.
الجميع يتحدث بحذر ، والجميع يعرف أكثر مما يقول.
بعضهم يقول إن “الحكومة حسمت الانتخابات مبكراً”
وبعضهم يرى أن “الدولة اختارت الاستقرار على حساب المفاجآت”، لكن الأغلبية تشعر بأن الصوت الشعبي لم يُسمع بل تم تأطيره في شكلٍ قانوني جميل.
الناس هنا لا تكره المرشح الفائز ، بل تكره الإحساس بالعجز.
الإحساس بأنك تشارك في مشهدك الوطني ، لكن النهاية تُعرض عليك جاهزة — كفيلمٍ قديم تُشاهده للمرة العاشرة.
التزوير؟ لا … ذكاء سياسي بارد.
الكلمة الأخطر التي تدور على ألسنة الناس هي “تزوير”.
لكن الواقع أكثر تعقيداً من كلمة.
فلا صناديق محروقة ، ولا لجان مغلقة بالقوة ، ولا نتائج كُتبت في مكاتب مظلمة.
ما حدث هو هندسة سياسية دقيقة تجعل الصندوق يصل إلى نفس النتيجة مهما تغيرت الأصوات.
صوت الناخب لا يُلغى ، بل يُعاد توجيهه بذكاء.
الإقبال لا يُمنع ، بل يُدار.
والنتيجة لا تُصنع في غرفة ، بل تُبنى على سلسلة قرارات تبدأ قبل الحملة بشهور.
هكذا تُدار الديمقراطية في نسختها الجديدة :
نظيفة الشكل ، مشكوك في الجوهر.
الدائرة الثالثة … مرآة الدولة كلها
ما حدث في الدائرة الثالثة ليس شأناً محلياً.
هي مرآة صغيرة تعكس الطريقة التي تُفكر بها الأمور في البلد كله.
نريد انتخابات ، لكن دون مفاجآت.
نريد استقراراً ، لكن دون أصوات مزعجة ( فتحي قنديل أكثر المرشحين تكلماً تحت قبة البرلمان)
نريد مشاركة شعبية ، لكن في حدود السيناريو المسموح به.
هي معادلة دقيقة : كيف تصنع ديمقراطية تشبه الديمقراطية … دون أن تكون كذلك.
والنتيجة : صندوق انتخابي شفاف تماماً ، لكن ما بداخله غير مرئي.
في النهاية .. الدائرة الثالثة لا تحتاج لجنة تحقيق ، بل تحتاج مرآة.
مرآة يرى فيها الجميع حقيقة ما أصبحنا عليه :
نمارس الانتخابات كطقس وطني ، لا كأداة تغيير.
نصفق للفائز ، ثم نعود إلى بيوتنا نهمس لبعضنا :
“الصندوق اتكلم … بس مش بكلامنا.”
الدائرة الثالثة أثبتت إن الديمقراطية ممكن تكون كاملة الشكل ، نظيفة الورق ، شفافة الحبر .. لكن النتيجة دايماً مطابقة للمواصفات الحكومية.
الطعون في الدائرة الثالثة .. عدالة بلا أثر.
أولًا : من الناحية القانونية
الطعون الانتخابية في مصر حق مكفول لأي مرشح يرى أن هناك مخالفة أثرت على النتيجة.
لكن واقعياً ، الطعون دي بتتعامل معاها الهيئات القضائية (زي محكمة النقض أو الإدارية العليا حسب المرحلة) بمنهج محافظ جداً.
بمعنى : القضاء ما بيهتمش بـ”الانطباعات العامة” عن التزوير ، إنما بـ”الأدلة المادية” فقط ـ كشهود داخل اللجنة ، محاضر فرز ، أوراق اقتراع مش مطابقة ، أو تلاعب في الحصر العددي.
وده بالضبط سبب إن معظم الطعون في تاريخ الانتخابات البرلمانية المصرية لا تُغير النتيجة النهائية ، إلا في حالات نادرة جداً ومثبتة بالمستندات.
ثانياً : من الناحية السياسية
خلينا نكون واقعيين.
الطعون هنا مش مجرد نزاع قانوني ، لكنها صرخة سياسية موجهة للرأي العام أكتر من كونها وسيلة لاستعادة المقعد.
المرشحين اللي هيقدموا طعون بيحاولوا :
يثبتوا إن المعركة ما كانتش متكافئة.
يخلدوا موقفهم أمام قواعدهم القبلية.
يبعثوا رسالة إنهم “ماسكتوش” حتى لو النتيجة محسومة.
بكلمة تانية : الطعن أحياناً بيبقى أداة رمزية أكتر من كونه خطوة قضائية فاعلة.
ثالثاً : من زاوية الواقع الميداني في قنا
في الدائرة الثالثة ، اللي بتعتبر أكتر دايرة جدلية في انتخابات 2025 ، المرشحين اللي بيتكلموا عن تزوير أو “توجيه أصوات” عندهم بالفعل تأييد شعبي واسع ، لكن مش بالضرورة عندهم “أدلة إجرائية” تقدر تهز النتيجة.
فلو قدموا الطعون ، القضاء هينظرها شكلاً ـ احتراماً للإجراءات ـ لكن مضموناً ، صعب جداً تتغير النتيجة إلا لو في لجنة معينة اتثبت فيها تلاعب موثق بمحاضر رسمية ، وده غالباً مش متاح.
الطعون دي مهمة سياسياً ومعنوياً ، لكنها لن تُعيد توزيع المقاعد.
القضاء المصري مش هيتورط في قلب نتيجة محسوبة ، إلا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل.
لكن رغم كده ، مجرد إن الطعون دي اتقدمت هو في حد ذاته مؤشر على فقدان الثقة في العملية الانتخابية ـ وده أخطر من التزوير نفسه ، لأنك تقدر تصلح محضر ، لكن صعب جداً تصلح إحساس الناس إن أصواتهم “لا وزن لها.
خلاصة المشهد
رسمياً : العملية الانتخابية تمت “في أجواء آمنة ومنظمة”
شعبياً : هناك غضب واسع وشعور بالاستبعاد ، وإن الحكومة رتبت المشهد مسبقاً.
سياسياً : فوز خالد خلف الله لو تم إعلانه رسمياً ، هيُعتبر رسالة واضحة من السلطة بأن مقاعد الصعيد تحديداً لن تُترك للمفاجآت.




