✍️ يوحنا عزمي
في الساعات الأخيرة ، دخل السودان مرحلة غير مسبوقة من التصعيد العسكري ، بعدما أعلن الجيش السوداني أكبر نداء تعبئة عامة في تاريخ البلاد ، ودعا كل من يستطيع حمل السلاح للانضمام فورًا إلى صفوفه.

هذا القرار لم يأت كخطوة سياسية عابرة ، بل كإشارة واضحة على أن الصراع وصل إلى ذروته ، وأن البلاد تتجه نحو معركة فاصلة ستحدد مصيرها لسنوات طويلة.
حالة الاستنفار التي عمت المدن والولايات تعكس حجم القلق ، وفي الوقت ذاته حجم الإصرار الشعبي والعسكري على استعادة الدولة من قبضة الميليشيات التي أصبحت تهدد وجودها ذاته.
ورغم أن الجيش حقق انتصارات مهمة خلال الساعات الماضية ، واستعاد مناطق استراتيجية من قوات الدعم السريع ، إلا أن المشهد على الطرف الآخر يكشف استعداداً خطيرًا لهجوم مضاد واسع يقوده حميدتي بنفسه ، وهو ما يجعل الوضع على الأرض أكثر تعقيداً واحتقاناً.
فالميليشيات تستعد الآن لمحاولة السيطرة على مدينة بابنوسة في غرب كردفان ، وهي مدينة لا تمثل مجرد نقطة جغرافية ، بل تعتبر آخر معقل رئيسي للجيش في المنطقة ، والسيطرة عليها تعني فتح الباب أمام سيناريوهات أشد ظلاماً ، قد تصل إلى حد تقسيم السودان فعلياً.
الأحداث التي تلاحقت خلال الـ 48 ساعة الماضية تعطينا صورة واضحة عن مدى احتدام الصراع. البرهان خرج من ولاية الجزيرة بتصريحات قاطعة أعلن فيها فتح باب التعبئة العامة لجميع القادرين على القتال ، في دعوة مباشرة للالتحاق بالجيش والمشاركة في المعركة الشاملة التي لن تتوقف – كما يقول – إلا بالقضاء الكامل على الدعم السريع.
هذا الإعلان لم يكن مجرد خطاب تعبوي ، بل لحظة فاصلة تشبه نداءات التحرير الكبرى التي يطلقها القادة في لحظات الانعطاف التاريخي ، في نفس الروح التي واجه بها أحمس الهكسوس ، كما شبه الكثيرون.
وبعد ساعات قليلة فقط من هذا النداء ، بدأ الجيش السوداني تنفيذ عمليات واسعة ، نجح خلالها في استعادة منطقة كازقيل جنوب الأبيض ، وهي نقطة في غاية الحساسية لأنها تمثل صلة وصل بين شمال وجنوب كردفان.
استعادتها تعني فعلياً قطع خطوط الإمداد التي كانت تعتمد عليها ميليشيات الدعم السريع ، وتمزيق تواصلها بين الجبهات. وفي تطور آخر متسارع ، تمكن الجيش من استعادة منطقة أم دم حاج أحمد شمال الأبيض ، ثم مناطق أخرى محيطة ، ليبدأ بذلك بناء جدار دفاعي وتأمين شبكة طرق تسهل توسعه العسكري في المرحلة المقبلة.
كل هذه الإنجازات تحمل وزناً عسكرياً حقيقياً ، لأنها تُضيق الخناق على الميليشيات وتقلص قدرتهم على التقدم أو المناورة.
لكن في المقابل ، تتجه الأنظار الآن نحو بابنوسة ، حيث يتحضر حميدتي لقيادة هجوم شخصي على مقر الفرقة 22 مشاة ، في خطوة تعكس حجم الرهان الذي تضعه الميليشيات على هذه المدينة.
موقع المدينة يجعلها نقطة مركزية تربط غرب كردفان بدارفور والحدود الجنوبية ، وهي بوابة تمر عبرها الإمدادات التجارية والعسكرية والنفطية. السيطرة عليها لن تمنح الدعم السريع تفوقاً جغرافياً فقط، بل ستكون ضربة معنوية واستراتيجية ضخمة للجيش ، وقد تُعيد رسم خطوط النفوذ على الأرض بالكامل.
الوضع داخل بابنوسة يكشف مدى قسوة المعركة. القصف مستمر منذ أيام ، والمدينة تعرضت لهجوم عنيف بالآليات الثقيلة والمرتزقة والمدفعية والطائرات المسيّرة. آلاف السكان اضطروا للنزوح ؛ أكثر من 180 ألف شخص غادروا منازلهم وفق التقارير الأولية، بينما بقيت المدينة شبه خالية بعد أن تحولت إلى منطقة أشباح. وهناك روايات عن اعتقال أسر مدنية أثناء محاولتها الهروب ، وانتشار القناصة حول الأحياء لمنع خروج المدنيين ، ونقص حاد في الغذاء والماء والدواء ، وانقطاع شبه كامل للخدمات.
المشاهد تعيد ذكريات الفاشر ، حيث استخدمت الميليشيات نفس التكتيكات لإسقاط الروح المعنوية للمدنيين ودفعهم للاستسلام.
في المقابل ، لا تزال قوات الجيش داخل بابنوسة تقاوم وتصد الهجمات ، وتعلن تكبيد المهاجمين خسائر ثقيلة، لكن المدينة محاصرة ، والرهان الحقيقي الآن على قدرة الجيش على إيصال الإمدادات إليها قبل أن تسقط. وما يزيد خطورة اللحظة أن حميدتي ، بخروجه بنفسه للميدان ، يرسل رسالة واضحة بأن هذه المعركة بالنسبة له معركة وجود، وأنه يريد تغيير خريطة السيطرة بالقوة ليفرض شروطه لاحقًا عند أي مفاوضات قادمة.
الصراع عند حدود السودان الجنوبية الآن يتشكل أمام أعيننا ، والساعات المقبلة قد تحمل تحولًا هائلًا في ميزان القوى. المشهد ضبابي ، والأنباء شحيحة بسبب التعتيم الإعلامي، لكن المؤكد أن البلاد تقف على حافة معركة فاصلة لم يعد فيها مجال للحياد أو التراجع.
المعركة ليست فقط بين جيش وميليشيا، بل بين دولة تكاد تُسلب من أهلها ، وقوة مسلحة تحاول فرض واقع جديد.
ومهما كانت التطورات القادمة ، تبقى الدعوات الصادقة لأهل السودان هي السلاح الأول الذي لا ينفد ، عله يكون سندًا في هذه الليالي الصعبة ، حتى يعود الأمن وتعود الأرض لأصحابها ، وينتهي زمن الخراب الذي أنهكهم طويلًا.




