مقالات

أربع سنوات من الهدنة مع أمريكا : كيف أدارت مصر الخلافات الصامتة مع ترامب ؟

✍️ يوحنا عزمي 

يخطئ من يظن ان سنوات إدارة دونالد ترامب الأمريكية الأربع ما بين يناير 2017 ويناير 2021 كانت دون مشاكل بين واشنطن والإدارة المصرية بزعامة الرئيس عبد الفتاح السيسي ، ولكن سر اختلاف العلاقات المصرية الأمريكية في زمن ترامب هو ان الرئيس الأمريكي تفهم ثوابت الدور المصري ليس في الشرق الأوسط فحسب ولكن في صناعة الأمن الدولي والسلام العالمي وان إستقرار مصر جزء رئيسي من إستقرار المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وتوفير الأمن الوطني داخل الأراضي الأمريكية على ضوء حقيقة ان الفوضى في الشرق الأوسط لم تعد امراً داخلياً يخص دول تلك المنطقة ولكن لها انعكاسات إرهابية تصل إلى عمق العواصم الأوروبية والأمريكية الكبرى.

وكان الرئيس الأمريكي قد فك ارتباط العلاقات المصرية الأمريكية بملفات الإسلام السياسي والتحول الديموقراطي الكاذب وملفات حقوق الإنسان الوهمية التي تستخدم لإعطاء الإرهابيين مساحات قانونية وقضائية وحقوقية على حساب الشعب المصري ، وأعاد المساعدات العسكرية والإقتصادية الأمريكية لمصر على نحو كامل بعد حجبها في سنوات سلفه باراك أوباما ، ورفض الانحياز للمحور القطري التركي بوجه الرباعي العربي وعلى رأسهم مصر ، كما ساند الجهود المصرية في ملف سد النهضة ووبخ اثيوبيا وقام بتعليق بعض المساعدات الأمريكية لأديس أبابا.

كما رفض مطالب بعض الأطراف الأوروبية في تبني دعوات العنف والإرهاب تحت مسمى التظاهر لأحياء ذكرى 25 يناير 2011 او بعض الدعوات المماثلة التي أطلقتها بعض العناصر الهاربية خارج مصر إلى قطر وتركيا واسبانيا وبريطانيا.

وساند ترامب الجهود المصرية في إعادة العراق إلى محيطه العربي ورسم الخط الأحمر المصري في قلب ليبيا، كما دعم الانتقال المدني في السودان ما خلص الأمن القومي المصري من مخاطر وجود نظام ذو هوى إخواني وايراني في الخرطوم.

ولقد أدركت مصر في المقابل ان هذه الهدنة التاريخية في العلاقات المصرية الأمريكية هي أفضل مراحل العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وواشنطن على الاطلاق ، حيث خيم الجمود على العلاقات بين البلدين منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، قبل ان تشهد لحظات صعود وهبوط ، وقد مثلت حقبة إدارتي جورج بوش الإبن وباراك أوباما سنوات إنهيار العلاقات رغم التحسن النسبي في أولى عامين من حكم أوباما ما بين يناير 2009 ويناير 2011.

وعلى ضوء إدراك القاهرة ان ترامب هو أفضل رئيس امريكي تعامل مع ملف العلاقات المصرية الأمريكية ، فأن القاهرة رأت أهمية معالجة الخلافات بين البلدين بعيداً عن التصعيد الواجب او اللازم لو كان هنالك رئيس أمريكي آخر بدلاً من ترامب ، اذ ادرك ترامب ان للخلاف بين القاهرة وواشنطن خطوط حمراء تتعلق بألا تتسبب واشنطن في زعزعة إستقرار القاهرة او التسبب في صعود الجماعات الإرهابية للحكم او حصولها على نفوذ سياسي كما جرى في سنوات بوش الإبن واوباما.

حلف الناتو العربي 

ولعل اول محطات الخلاف بين القاهرة وواشنطن ، كانت فكرة حلف الناتو العربي التي أرادها ترامب بناء على اقتراح من مستشاره العسكري الدائم الجنرال مايكل فلين ، وهى عودة لفكرة قيام تحالف عسكري في الشرق الأوسط برعاية أمريكية كما حاول الرئيس داويت ايزنهاور في خمسينات القرن العشرين.

رأت إدارة ترامب حتمية ان يقوم المحور العربي المعتدل في الشرق الأوسط بتوحيد الجهود العسكرية بوجه إيران ، على ضوء حقيقة ان هنالك عراقيل أمام ترامب يصنعها دوائر العولمة والنيوليبرالية والرأسمالية الدولية الذين يتحكمون في شبكات المصالح الغربية التي تقود المعسكر الغربي ، إضافة إلى عراقيل تصنعها الدولة العميقة الأمريكية او المؤسسات غير المنتخبة التي لم ترضى بوجود رئيس أمريكي من خارج النخبة ودوائر العولمة الامريكية.

وكانت رؤية ترامب تعتمد على ان تقدم أمريكا دعماً لهذا التحالف في مقابل الذهاب إلى معركة حاسمة مع إيران ، التي استغلت سنوات بوش الإبن في أفغانستان والعراق ثم سنوات الربيع العربي على يد أوباما في لبنان وسوريا واليمن ، ونشرت نفوذها وقواتها في تلك الدول التي أصبحت اليوم مجرد ولايات فارسية في مكتب المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية وملالي طهران.

كما ان التمدد الإيراني هدد الأمن القومي العربي والمصري ، إضافة إلى تهديد إيران المستمر بغزو البحرين وتمديد النفوذ الإيراني في شرق السعودية وصولاً إلى بعض التهديدات على لسان الحوثيين ذراع إيران في اليمن باستهداف أبو ظبي ودبي في الإمارات العربية المتحدة.

وكانت رؤية مصر الرافضة لحلف الناتو العربي هو ان الولايات المتحدة هي التي صنعت المارد الإيراني وعليها ان تتحرك لمنعه وان مصر لن تتحرك في المضمار العسكري إلا دفاعاً عن الخليج العربي بوجه أي عدوان عسكري بنفس قواعد الأمن القومي المصري التي جعلتنا نحمي الكويت من العدوان العراقي ونفرمل غزو أمريكا للعراق عام 1991 تحت مسميات الدفاع عن الكويت ، ولكن فكرة ان تدخل الدول العربية في حرب مفتوحة مع إيران فأن هذا سوف يجعل الصراع العربي الإيراني بمثابة حرب طائفية بين الدول العربية السنية والمحاور الإيرانية الشيعية ما سوف ينتج صدع طائفي في الشرق الأوسط لن يجعله كما كان قبل البدء في تلك الحرب.

تعهد مصر لحلفائها في الخليج العربي قبل أي طرف آخر بالدفاع عن شبه الجزيرة العربية أمام أي عدوان خارجي دونما الذهاب إلى عمل عسكري موسع اخرس الإدارة الامريكية ، اذ ان التعهد المصري يتفق مع الأمن القومي المصري منذ بدء التاريخ حينما كانت الجزيرة العربية بوجه عام وإقليم الحجاز على وجه التحديد تحت الحماية العسكرية المصرية حتى في سنوات دولة الإسلام ، حيث كان والى مصر هو المسؤول عن حماية الحجاز ولاحقاً أصبحت الدولة المصرية الطولونية والفاطمية والايوبية والمماليك وعصر على بك الكبير وعصر محمد على باشا وإبراهيم باشا من الأسرة العلوية يحكمون الجزيرة العربية بشكل فعلي مباشر.

ولم تقم مصر بإعلان رفضها لحلف الناتو العربي بشكل واضح ومباشر في بادئ الأمر ولكن مع معرفة صانع القرار المصري لتعقيدات وجود حلف عسكري موحد بين عدداً من الدول العربية المتشرذمة سياسياً ، تركت القاهرة الفكرة تموت من تلقاء نفسها وتفقد زخمها وشقها العسكري ، قبل ان تعلن القاهرة انسحابها من الترتيب الأمريكي بشكل علني في ابريل 2019 اثناء زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى واشنطن لمقابلة ترامب.

وقد تبقى من الفكرة مجلس سياسي تنسيقي يضم دول حوض البحر الأحمر وشمال افريقيا ولم تنسحب مصر من هذا المجلس من اجل متابعة اعماله وفعاليات وضبط ايقاعه بما يتفق مع الأمن القومي المصري.

العلاقات مع قطر 

وكانت محطة الخلاف الثانية هو رفض مصر لأى شكل من اشكال الانفتاح على قطر ، رغم ان إدارة ترامب رحبت بإجراءات الرباعي العربي في يونيو 2017 وايد ترامب شل قدرة قطر على رعاية الإرهاب ، ولكن لاحقاً حينما قرر العمل حيال إيران ، وجد ان غلق إيران لمجالها الجوي سوف يضر قطر التي تعتمد على المجال الجوي الإيراني عقب غلق المجال الجوي للرباعي العربي بوجه الملاحة الذاهبة إلى قطر ، علماً بأن قطر تستورد كل شيء بالمعني الحرفي للكلمة من الخارج ومعني غلق المجال الجوي الإيراني نتيجة للتوترات الأمريكية الإيرانية التي كان يسعى لها ترامب هو ان يختنق سكان قطر سواء القبائل الأصلية او المجنسين والأجانب حتى الموت.

ولم يكن هم ترامب هو مصير سكان قطر ، ولكن مصير القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر وهي أكبر قاعدة أمريكية خارج الولايات المتحدة الأمريكية ، اذ ان خنق قطر سوف يؤدى إلى خنق فاعلية تلك القاعدة التي يفترض في الأساس ان تكون معقل التوترات الأمريكية بحق إيران.

ولقد درس ترامب نقل القاعدة الأمريكية من قطر إلى دولة أخرى سواء في المحيط العربي او الإسلامي ، ولكن ظلت أهمية شبه جزيرة قطر الجغرافية التي جعلت واشنطن توافق يوماً ما على انشاء تلك القاعدة بمثابة حاجز أمام فكرة نقل القاعدة الأمريكية.

وعلى ضوء محاولة ترامب تفعيل وعوده الإنتخابية ورؤيته الخاصة بحق الخطر الإيراني في اخر عامين من ولايته ، بدأت واشنطن في محاولة انهاء الخلاف بين قطر والرباعي العربي ، ولم تكن المحاولة الأمريكية تشمل الخلاف كاملاً ، ولكن أي حلحلة للموقف تشمل فتح المجال الجوي لدول الرباعي العربي فحسب.

وتشددت مصر في رفض المطالب الأمريكية ، على اعتبار ان هذا التحول سوف يشكل مكسب لقطر ، ويظهر المفاوض المصري بمظهر المتراجع عن معاقبة قطر على مساندتها للجماعات الإرهابية والفوضى السياسية بحق مصر منذ إنقلاب حمد بن خليفة على والده أمير قطر عام 1995.

وحتى حينما قررت الدول الخليجية ان تغير حساباتها على ضوء المتغيرات الدولية ، ما بين سقوط ترامب المفاجئ وعودة النيوليبراليين إلى البيت الأبيض بنفس أفكار إدارة باراك أوباما عبر وصول نائبه المسن جو بايدن إلى السلطة ، فأن القاهرة وان رفضت ان تفرض شروط على حلفائها في الرباعي العربي إلا ان مصر تمسكت بموقفها حيال قطر وذلك بعدم حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي للقمة الخليجية في يناير 2021 وايفاد السفير سامح شكري وزير الخارجية إلى القمة احتراماً للدعوة الأخوية من الملك سلمان بأهمية الحضور المصري.

كما ان مصر تدرك ان اتفاقيات قمة العلا الخليجية لا ترتبط بمخططات ترامب ولكن برؤية الخليج العربي ومخاوفه من إدارة بايدن وهي مخاوف مشروعة لذا فأن الحنكة الدبلوماسية المصرية استدعت عدم مقاطعة القمة او معارضة مخرجاتها علناً ولكن في نفس الوقت فأن مصر ليست طرف في الإتفاق الذي جري بين قطر من جهة والإمارات والسعودية من جهة أخرى لفتح المجال البري والبحري والجوي بين الطرفين.

ضرب السد الأثيوبي 

رغم ان الرئيس الأمريكي قد اثبت دهاء سياسي في كثير من المواقف إلا ان افتقاده للخبرة السياسية كان المصيدة التي اسقطت حكمه ، وافتقاره للخبرة السياسية جعلته في بعض الأحيان متحمساً لبعض الأفكار التي تبدو في موازين العامة والهواة رائعة ولكن في موازين الخبرة السياسية كارثة حقيقية.

ولقد نظر ترامب إلى تعنت سلطات أديس أبابا في ملف السد الأثيوبي ورفضهم بعض الوساطات الأمريكية بتشجيع أوروبي على أنه صلف يستحق التأديب ، وعلى ضوء ذلك حاول ترامب مراراً ان يقنع القاهرة والتلميح علناً عبر وسائل الإعلام بأن الولايات المتحدة تعطي الضوء الأخضر لمصر من أجل قصف السد الأثيوبي والتوجه إلى عمل عسكري بحق إنشاءات السد.

ولكن صانع القرار المصري يدرك مصيدة قصف السد الاثيوبي ، إذ ان قصف مشروع تنموي افريقي لشعب يعاني 90 % من سكانه من غياب الكهرباء يعني تبديد رصيد وسمعة وشعبية مصر في كافة بلدان الإتحاد الإفريقي ، وخسارة مصر لكافة علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، كما ان عمل عسكري كهذا سوف يصنف وفقاً للوائح الأمم المتحدة والقانون الدولي باعتباره “عدوان عسكري”، سوف يعقبه حظر على تصدير السلاح إلى مصر من قبل الغرب ، وبعض العقوبات الإقتصادية ودفع تعويضات هائلة سوف تستنزف الخزانة المصرية إلى إثيوبيا بل وإلى الشركات الكبرى التي عملت في انشاءات هذا السد حتى لو توقفت عن العمل به منذ سنوات فأنها قادرة على رفع قضايا دولية لادعاء التضرر من العمل العسكري المصري.

القضية الفلسطينية 

وفيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي فأن مصر رفضت قرار ترامب بأن تعترف أمريكا بالسيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة او الجولان السوري المحتل ، وقادت مصر الدول العربية والإسلامية لعقد جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة حيث صوتت ضد قرارات الخاصة بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها من تل ابيب.

كما رفضت مصر الخطة الأمريكية المعلنة أوائل عام 2020 والتي عنونتها الصحف العالمية بصفقة القرن ، والتي حاولت بعض دوائر المؤامرة الزج بأسم مصر فيها ولكن الخطة صدرت في ستين صفحة دون ان يكون هنالك أي ذكر لمصر في أيا من تفاصيلها وتهدم رؤية ترامب في هذا المخطط فكرة قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.

ولقد تفهمت القاهرة ان خطة ترامب تأتي في سياق عام الإنتخابات الرئاسية الأمريكية وانه يفضل ان تنتهي الانتخابات اولاً قبل ان تتحرك مصر ضد هذا الإعلان وبالفعل في يناير 2021 بدأت مصر تحركاً دولياً من اجل عقد قمة رباعية بين مصر والأردن وألمانيا وفرنسا بالاتفاق مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية لأحياء مسار السلام على نهج الاتفاقيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة عقب تعطيل شامل لهذا المسار منذ مفاوضات واشنطن في الربع الأخير من العام 2010 عشية الربيع العربي.

ويأتي هذا المؤتمر وتلك الجهود المصرية في يناير 2021 بمثابة الغاء مصري لرؤية ترامب حيال تسوية ملف الدولة الفلسطينية وانتظاراً لاستماع إلى رؤية إدارة بايدن الذي ابدى رفضاً سابقاً لرؤية ترامب حيال تسوية القضية الفلسطينية.

إنتصار دبلوماسي ساحق 

ختاماً لقد قامت الدولة المصرية بسن دبلوماسية هادئة من اجل استيعاب عدم خبرة وبعض أفكار دونالد ترامب ، دون ان تخسر فرصة وحقيقة أنه أفضل رئيس أمريكي عاصر العلاقات المصرية الأمريكية واستطاعت مصر ان تظفر بصداقة وهدنة أربع سنوات حقيقية مع النظام الأمريكي في ظل عالم سياسي عاصف لم يعد يعطي للأخلاق او القيم او مصالح الدول أي اعتبار في ظل مصالح الرأسمالية الدولية ودوائر العولمة النيوليبرالية وشبكات المصالح الغربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!