ابداعات

قيد من ضوء

بقلم ضياء علي الدعاس 

 

 

إني لا أكتب هذا المقال لأحدٍ بعينه، ولا لأرثي حال طائفة دون أخرى، بل لأتحدث بلسان كل قلبٍ غدا فارغًا من الأنس، ممتلئًا بالضجيج، عن كل روحٍ تقطن المدينة ولا تسكنها، وتصافح الناس دون أن تمسهم، وتبتسم في وجوه الشاشات بينما الدمع يملأ عينيها في الخفاء.

 

لقد ضاقت الأرض بالناس، واتسعت فيهم الفجوة…صرنا نُقيم في مجتمعات مزدحمة، وننام في قلوبٍ خالية… كأننا قِطع أثاث بشرية، نتجاور ولا نلتقي، نتحادث كثيرًا ولا نتكلم حقًا.

 

صرنا نُحدّث العالم كل يوم، ولا نجد من يُصغي لنا ساعة صدق…نضحك كثيرًا، لا لأننا سعداء، بل لأننا نحاول خداع وحدتنا بالضحك…ويا للمفارقة… نُزيّن وجوهنا ولا نرى الأرصفة المتشققة في دواخلنا…هل يُرمم جرحُ الروح بصورة؟ وهل تُشفى وحشة القلب بمنشورٍ نال إعجاب الغرباء؟

 

الوحدة اليوم لم تعد حبسًا اختياريًا كما كانت من قبل، بل صارت عزلة تُفرض علينا قسرًا ونحن في زحام المدن والصفحات والرسائل…إنها “وحدة الصوت في زحام الصدى” كما قال محمود درويش

أن تقول فلا يُسمع صوتك، أن تبحث فلا تجد سوى وجوه مُضيئة بالشاشات، مطفأة بالشعور.

 

كنتُ يومًا أُقلب مقاطع قديمة من برنامج “العلم والإيمان” فإذا بي أُصادف حديثًا للدكتور مصطفى محمود، كان يتكلم بنبرة العارف، بنبرة من أبصر ما لم يُبصره الناس بعد…كان يتحدث عن هذا العصر، عن وهم التكنولوجيا، وعن زمانٍ سيفقد فيه الإنسان إنسانيته دون أن يشعر…قال كلامًا بسيطًا، لم تُصغِ له الملايين يومها، لكنّ شابًا يشاهد الفيديو بعد عقودٍ من الزمن، سيفهمه كأنه قيل له الآن.

 

عندها أدركت… أن الكلمة لا تُقاس بأثرها الآني، بل بقدرتها على البقاء؛

ربّ كلمةٍ تسقط في قلبك اليوم، فتُثمر فيك بعد عشر سنين..،وربّ حرفٍ مهملٍ في الزاوية، يوقظ مدينةً نائمةً في أعماقك.

 

لذلك لا يُخيفني أن أكتب، حتى وإن بدا أن لا أحد يقرأ؛لا يُحزنني أن أتكلم، وإن ظننت أن لا أحد يُصغي؛لأنني آمنت بأن الصدق، إذا خرج من القلب، لن يضيع وأن الكلمة، مهما صغُرت، إن كانت من الروح، وصلت إلى الروح.

 

لسنا بحاجة لآلاف المشاهدين ، بل لعينٍ واحدةٍ تُبصرنا كما نحن، لا كما نُظهر أنفسنا؛لسنا بحاجة لعشرات التعليقات، بل لرسالةٍ صادقةٍ تقول: أنا هنا… لا تزال تُهمني.

 

أيها القارئ،

اجلس إلى نفسك هذا المساء، لا لتتصفحها كما تتصفح صفحتك، بل لتسألها:كيف حالك حقًا؟ هل أنت بخير، أم أنك فقط تُجيد التمثيل؟

هل ترقص روحك فعلًا، أم أن كل ما فيك يرقص تحت قيد الضوء، ويكتم أنينه خلف قناع الابتسامة؟لا تبحث عن نفسك في عيون الغرباء، ولا تظن أنك بخير لأنك تحادث الجميع…أحيانًا، كثرة الحديث تخفي صمتًا هائلًا؛وأحيانًا، ألف صورة لا تُغني عن نظرة واحدة حقيقية.

 

لقد صار العالم أقرب من ذي قبل، لكن القلوب باتت أبعد…صرنا نعرف عن الآخرين ما لا نعرفه عن أنفسنا، نراقبهم كل يوم، بينما لا أحد يرانا حين نحتاج أن نُرى.

 

ليس هذا المقال دعوة لترك العالم، بل تذكرة ألّا نترك أنفسنا خلف هذا العالم،أن نمسك بأيدينا قبل أن نمسك بهواتفنا، أن نسند أرواحنا قبل أن نفتح الكاميرا، أن نعود لأبسط ما فينا، لما هو حقيقي، لما هو إنساني.

 

في النهاية جل ما أريد إيضاحه هو…وبينما تُضيء الشاشة وجهك، لا تنس أن تُنير روحك انت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!