بقلم:ضياء علي الدعاس
يا لها من ساعةٍ تئنّ فيها الأرواح تحت وطأة الذكرى، وتشتدُّ فيها وخزات الماضي في الضمير حتى تُشعل به نارًا لا تبقي ولا تذر
جلستُ بعد منتصف الليل، لا ضجيج حولي إلا أنين الصمت حين يشتد، ولا صحبة لي إلا أفكاري التي تتقاطر من أطلال الذاكرة كندى الفجر على رُبا حزينة؛ قلّبتُ صفحات أيامي، لا أبحث عن فرحٍ ضائع، بل لأُسلم بأن عمري كان كتابًا عنوانه “الوداع” وفصوله منفى وحقائب.
رأيت في حياتي كل شيء يمر بي مر العابر، فلا دارٌ استقرت بي، ولا وطنٌ قال لي “ابقَ”دون أن يُتبِع الكلمةَ بتهديد الرحيل.
إن من يولد وبين جنبيه وطنٌ منكوب، يعيش وكأن في أحشائه حربًا لا تهدأ؛ فإن نام الناس قريري الأعين، نمنا نحن نتحسس أبواب الخروج، نعد ما في متاعنا من الذكريات، نخشى أن يُغلق علينا باب؛ أو يُفتح أمامنا باب لا يُغلق.
وما أشقّ الكتابة حين يكون القلم كالسيف، لا يسيل بالحبر بل بالدمع، نحن معشر الكُتاب، إذا اشتدت بنا ساعات الفقد، فررنا إلى الورق، نبكي فيه ما لا نقدر أن نبكيه أمام الناس، ونسترجع فيه من ودعناهم ولم يأذنوا باللقاء،فما أعذب لحظة اللقاء حين تكتب، وما أشقاها حين تعيش! إذ كيف نكتب عن لقاء لم نعرفه إلا كحلمٍ تفتت عند اليقظة! فالقلب الذي نشأ على الرحيل، لا يتقن الاستقرار، ولا يطمئن للسلام، كأن به توقًا إلى النهايات قبل أن تبدأ الحكايات.
وقد صدق أحمد خالد توفيق إذ قال:
“لكنَّ الخوف الحقيقي هو حين تقول لأحدهم (إلى اللقاء)، فلا تلتقون أبدًا.
أن ترى أحدهم يغادر أمامك ولا يعود أبدًا.
أن تتفق أن تشرب قهوتك غدًا مع صديقك، لكن الغد يأتي بدونه.
الخوف أنك لا تعلم مَن قد يغيب إلى الأبد بعد دقيقة واحدة فقط.”
أجل، ذلك هو الخوف،لا ذاك الذي يصيح في الطرقات، ولا ذاك الذي تُشعل له النيران؛بل الخوف الأعمق، الذي ينهش القلب بصمت، أن يغيب من تحب، دون وداعٍ، دون أن تُدرك أنه الغياب الأخير.
لقد كبرتُ على شوقٍ لم يُشبَع، وعلى حنينٍ لا يبرأ، وعلى لقاءاتٍ خُطت بمداد الفقد منذ بدايتها،وها أنا الآن، لا أُجيد سوى أن أكتب،فإن كنتَ تقرأ لي الآن، فاعلم أن كل حرفٍ مني كُتب بدلَ حضنٍ لم أحظَ به، وكلمةٍ قلتها في الورق بدلًا من أن أقولها في وجه من رحلوا.
أما اللقاء، فلا أظنني خبِرته كما يليق به، فهو لم يكن يومًا إلا تمهيدًا لفراقٍ آخر،ولهذا، لا أكتب عن اللقاء إلا كمن يصف الجنة من على أبواب الجحيم.