✍️ يوحنا عزمي
سأحاول أن أصدق أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جاد في تهديده بقطع دعم إدارته لإسرائيل إذا ما استمرت في مساعيها لضم الضفة الغربية المحتلة، ولم تتراجع عن قرارها الذي أثار زوبعة من الغضب والاستنكار في الأوساط الإقليمية والدولية.
وسأحاول كذلك أن أُبعد عن ذهني فكرة أن تلك التصريحات النارية، غير المألوفة من رئيس أمريكي، ليست سوى مناورة مدروسة من واشنطن ، تهدف إلى امتصاص الغضب العربي والإسلامي والدولي الذي فجره قرار الكنيست الإسرائيلي الأخير بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
وسأحاول أن أُقنع نفسي بأن ترامب ، بخطابه الحاد ، لا يمارس لعبة التضليل المعتادة ، بل يعبر عن موقف حقيقي وصدام فعلي مع إسرائيل.
لكن مهما حاولت ، لا أستطيع أن أُخفي شكوكي العميقة حيال هذا المشهد الأمريكي المتقن الإخراج ، والذي يبدو في ظاهره تهديداً وإنذاراً قاسياً للحكومة الإسرائيلية وفي جوهره ترتيب سياسي محسوب بعناية.
فالانفعال الأمريكي لا ينبع من حرص حقيقي على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ، كما قد يظن البعض، بل لأن عملية الضم تمت بطريقة رسمية فجة وصريحة استفزت العالم بأسره ، وأحرجت واشنطن التي طالما فضلت إدارة تلك الملفات في الخفاء.
فإعلان الضم عبر الكنيست ، وبشكل مباشر ، سحب الغطاء عن المسرح، وكشف الدور الأمريكي أمام الجميع، مما اضطر ترامب إلى رفع صوته علناً ليبدو في موقف المعارض، بينما الحقيقة أنه يسعى فقط إلى تهدئة العاصفة ، لا إلى إيقافها.
كان بإمكان الضم أن يحدث فعلياً، وبهدوء، بعيداً عن الأنظار، ليُفرض كأمر واقع بعد حين دون ضجيج أو مساءلة دولية، تماماً كما يحدث اليوم على الأرض.
إذ تطلق حكومة نتنياهو العنان لقطعان المستوطنين ليعبثوا في مدن الضفة الغربية ومخيماتها ، يدمرون ، ويحرقون، ويعتدون في حماية كاملة من الشرطة الإسرائيلية، دون رادع قانوني أو رقابة دولية. ويُجبر السكان الفلسطينيون، تحت هذا الحصار الممنهج ، على ترك منازلهم ومزارعهم وممتلكاتهم ، فيما تواصل إسرائيل سياسة التوسع الاستيطاني بأقصى وتيرة ، تبني المزيد من الكتل الاستيطانية وتربطها بشبكات بنية تحتية جديدة لتكريس واقع الاحتلال ، وتفرض سيادتها تدريجياً على كل شبر من الأرض.
إنها سياسة الضم الهادئ التي تفضلها الإدارة الأمريكية : لا بيانات رسمية ، ولا قوانين مُعلنة، بل وقائع تُفرض بصمت حتى تصبح حقائق لا رجعة فيها.
أما الضم عبر القنوات الرسمية ، كما فعل الكنيست ، فهو ما يربك اللعبة ، لأنه يرفع الغطاء السياسي عن المخطط الأمريكي الإسرائيلي المشترك ، ويُظهره أمام العالم كما هو ـ مشروع استيلاء منظم على أرض محتلة.
ولهذا جاء غضب واشنطن ، لا من أجل العدالة ، بل لأن شريكها أفسد التوقيت ولفت الأنظار إلى ما كان يُفترض أن يمر بهدوء.
في الواقع ، لا تسعى الولايات المتحدة إلى وقف إسرائيل بقدر ما تحاول إعادة ترتيب أوراقها بما يخدم خطتها الأوسع تجاه غزة. فالمشهد الحقيقي هناك هو الهدف الأهم الآن بالنسبة لإدارة ترامب : إعادة تشكيل الوضع في القطاع ضمن ترتيبات أمنية وإدارية جديدة تُدار بإشراف دولي، يكون للفلسطينيين فيها دور هامشي فقط ، أشبه بالمتفرج.
خطة واشنطن ، التي تمتد على مدى خمس سنوات ، تهدف إلى هندسة واقع جديد في غزة يُنهي فكرة المقاومة تدريجياً ، ويجعل من القطاع منطقة محايدة تُدار بمزيج من الهيمنة الأمنية والتطبيع الاقتصادي، بينما يُترك ملف الضفة الغربية ليُحسم على الأرض دون صخب.
وبينما ستتغير الأسماء والوجوه ـ فترامب ونتنياهو سيرحلان عاجلاً أو آجلاً ـ ستظل السياسات ذاتها قائمة، تتوارثها إدارات جديدة تتابع تنفيذ ما بدأه سلفها.
وبغض النظر عن الشكل ، سواء تم الضم رسمياً أو فعلياً، فإن الخسارة تظل واحدة وثابتة: خسارة فلسطين، أرضاً وسيادة وهوية.
ما يحدث اليوم ليس أكثر من مسرحية سياسية محبوكة، تتبادل فيها واشنطن وتل أبيب الأدوار بين التهديد والتمثيل ، بينما المشهد الحقيقي يُرسم في صمت على الأرض.
والنتيجة واضحة : الدعم الأمريكي لإسرائيل لن يتوقف، بل سيتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً ودهاءً. وما يبدو كأزمة بين الحليفين ، ليس سوى “زوبعة في فنجان”، ضجيج يُخفي وراءه اتفاقاً عميقاً ومتيناً بين طرفين يجيدان إدارة الخداع أكثر مما يجيدان إدارة الحقيقة.




