✍️ يوحنا عزمي
في صمت ونظام ، بعيدًا عن أضواء الإعلام والضجيج السياسي ، تعمل الصين الآن على خطة اقتصادية واسعة النطاق قد تغير ملامح النظام المالي العالمي الذي اعتمد عليه العالم لعقود.
الفكرة ليست مجرد مناورة مالية عابرة أو عملة رقمية جديدة تضاف إلى رصيد الدول ، بل مسعى متكامل يعتمد على أقدم وأصلب مقومات الثروة البشرية : الذهب.
ما يحدث في شنغهاي اليوم ليس حدثًا عابرًا، بل عملية مدروسة تهدف إلى بناء نظام موازٍ لا تخضع أدواته أو احتياطاته لتمكين أي طرف خارجي من تجميدها أو التحكم بها.
القصة بدأت تتبلور بعد صدامات عالمية كبرى في أواخر 2022، مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية ؛ تلك الأزمة التي لم تؤثر على أوروبا وحدها بل هزت ثقة العالم في الآليات المالية التقليدية.
رد الفعل الأمريكي آنذاك كان قوياً : تجميد أصول روسيا الضخمة في البنوك الغربية. قرار اعتُبر في واشنطن ضربة اقتصادية رادعة ، لكن نتائجه كانت بعيدة عن ما توقعه مُتخذو القرار ؛ إذ لم يُنهِ الصراع بل أطلق أمواجًا من القلق العالمي حول مصداقية وسلامة الأصول المحتفظ بها في نظامٍ يهيمن عليه طرف واحد. الرسالة الضمنية التي وصلت إلى الدول كانت صارخة وواضحة: “احتياطياتكم ليست آمنة بالضرورة”.
هذه الصدمة أنتجت حركةٍ اقتصادية عميقة باتت تُعرف لدى المحلين بـ”فك الارتباط عن الدولار” أو De-dollarization. البنوك المركزية في العديد من الدول ، من حلفاء الولايات المتحدة إلى دول أعادت تقييم تحالفاتها، شرعت في إعادة تشكيل موازناتها الاحتياطية : تقليل الاعتماد على السندات الأمريكية ورفع الحصة من الذهب الفعلي.
القرار لم ينبع فقط من خوف أو نزعة مضاهاة ، بل من استنتاج ملموس : الأدوات المالية المسطرة بالعملات الورقية قد تُستخدم كسلاح جيوسياسي، أما الذهب فهو أصل مادي لا يتآكل ولا يمكن تجميده بضغطة زر.
وسط هذا المشهد ، تصدرت الصين قائمة الدول التي اتخذت خطوات عملية. خلال الأشهر الأخيرة ، ازدادت مشتريات بنك الشعب الصيني من الذهب بشكل لافت ، وبات واضحًا أنه يعمل على بناء احتياطي ذهبي حقيقي يُستخدم كركيزة لخطط أوسع. هذه الخطوة ليست عرضًا للتفاخر ، بل جزء من استراتيجية أعمق : تحويل الثقة العالمية شيئاً فشيئاً من الدولار إلى عملة مدعومة بأصل مادي مرئي ومحدود.
ولكي تصبح هذه الرؤية قابلة للتطبيق ، لا يكفي مجرد شراء الذهب ؛ يجب خلق بنية سوقية ومؤسسية تجعله قابلًا للاستخدام الدولي كمرجعية للتبادل والاعتماد.
هنا تظهر بورصة شنغهاي للذهب (SGE) كلاعب مركزي. منذ تأسيسها شهدت تطويرًا تدريجيًا حتى أصبحت من أضخم أسواق الذهب في العالم ، وسياستها ترتكز على التداول بالذهب المادي الحقيقي ـ وهو أمر يعطيها ميزة جوهرية عند الحديث عن بناء نظام نقدي بديل.
ربط العملة بالذهب يحتاج إلى كميات هائلة ومصداقية في التخزين والإدارة، وهنا تبرز فكرة “ممر الذهب” كحل مبتكر.
ممر الذهب ليس نظرية انتهازية بل مبادرة عملية تقترح شبكة خزائن موثوقة موزعة عبر دول تحالفات مثل البريكس ، تسمح بتخزين الذهب محليًا وإقليميًا بحيث لا تترك دولة واحدة وحدها تتحكم في الاحتياطي.
تلك الخزائن الموزعة ، المرتبطة بشفافية وبآليات تسجل مؤكدة عبر بورصات مثل شنغهاي، تهدف إلى جعل الذهب قابلًا للاعتماد بين الدول من دون الخوف من مصادرة أو تجميد أو احتكار خارجي. النتيجة المرجوة بسيطة لكنها عميقة : عملة مدعومة بأصل مادي موثوق تصبح أكثر جاذبية في التجارة الدولية من ورقٍ قد يصبح هدفًا لأدوات القوة السياسية.
ومن زاوية أخرى ، يمنح هذا النموذج الدول النامية ذات الموارد الذهبية فرصة غير مسبوقة : تحويل مواردها المادية إلى سيولة وتمويل تنموي عبر نظامٍ يقدم قروضًا أو تسهيلات بعملاتٍ جديدة مبنية على الأصول بدلًا من الاعتماد التقليدي على صندوق النقد الدولي أو الدوائر المالية الغربية. بذلك يكتسب الطرف المزود للتمويل ـ في هذه الحالة الصين ـ نفوذًا اقتصادياً واقعياً يمتزج بالتعاون التنموي، بينما يحصل شريك الموارد على تمويل لبنية تحتية ومشروعات اقتصادية دون التبعية الكاملة لنظام الدولار.
النتيجة المتوقعة أن العالم أمام منافسة بنيوية بين نظامين : الأول قائم على سيطرة العملة الورقية والمصالح الجيوسياسية المرتبطة بها ، والثاني طموح لبناء نمط نقدي يغلب عليه الاستناد إلى أصول مادية موزعة وشفافة.
كل طرف في الساحة العالمية الآن يختار مقعده ، وبعضهم يضاعف من مشترياته من الذهب أو يستثمر في العملات الرقمية كتحوط موازي. المنافسة ، كما يبدو ، ليست مجرد تقليدٍ للاقتصاد بل صراع على مقاييس الثقة والقدرة على تأمين موارد الدول من ضغوط خارجية.
هل هذا التحول سينجح؟ الواقع أن التطبيق العملي يتطلب وقتًا وبنية مؤسسية دولية وقبولًا واسع النطاق من الأسواق والحكومات. لكنه ليس ضربًا من الخيال: الإجراءات الحالية، من زيادة احتياطي الذهب إلى تطوير بورصات مؤسسية وشبكات خزائن إقليمية ، تؤكد أن الخطة تتحرك من مرحلة الفكرة إلى مراحل التنفيذ. وما بين شراء الذهب ، وتأسيس آليات تخزين موثوقة، وربط العملة بأصلٍ مادي مقبول عالميًا، تشتغل صفحات التاريخ المالي أمام أعيننا على إعادة رسم قواعد اللعبة.
- وفي النهاية، ما نشهده اليوم ليس مجرد تنافس مالي بارد، بل مباراة استراتيجية على مستقبل أداة التبادل والقوة. هل سيبقى الدولار القائد أم ستظهر منظومة جديدة يُقاس فيها الثقل بالذهب؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة ، لكن المؤكد أن الأرضية تتغير الآن ، وأن المعركة ليست بعيدة عن كونها معركة كبرى تعيد تعريف مفاهيم المال والثقة في القرن الحادي والعشرين.




