✍️ يوحنا عزمي
في الساعات الأخيرة ظهر حدث غير متوقع تماماً قلب الطاولة على واحدة من أكبر الشبكات الإلكترونية المُوجهة في العالم ، بعدما كشف إيلون ماسك – دون قصد تقريبا – حجماً مرعباً من الحسابات التي تملأ الإنترنت صخباً وشتائم وتحريضاً ، بينما لم تكن تنتمي لأي دولة تدعي الانتماء إليها، ولا حتى يديرها بشر في بعض الأحيان.
كانت البداية مجرد تحديث بسيط على منصة إكس، تحديث روتيني يفترض أن يمر دون ضجيج ، لكن هذا التعديل حمل معه خاصية جديدة سمحت للمستخدمين برؤية الموقع الحقيقي للأجهزة التي تُشغل الحسابات التي يتابعونها، ليس الموقع الذي يكتبه صاحب الحساب في التعريف ، بل المكان الفعلي الذي يرسل منه جهازه الإشارة.
هذه الخاصية لم تكن عابرة كما ظن الجميع ، لأن نتيجتها تحولت فورًا إلى زلزال رقمي عالمي.
الفكرة الأساسية – وفق تحليل إعلامي واسع – كانت موجهة لكشف الحملات السياسية التي تخترق الرأي العام الأمريكي، ولكن ما كشفت عنه كان أوسع بكثير مما تصور أحد.
فبمجرد تفعيل التحديث ، اندفع آلاف المستخدمين للتدقيق في الحسابات التي تهاجم دولهم أو تُشعل جدالات لا تهدأ على المنصة ، لتظهر سلسلة صدمات متتالية : حسابات تبدو لوهلة وكأنها لأشخاص مصريين ينتقدون بلدهم ، تبين أن مواقعها في تركيا وبريطانيا والإمارات. صفحات محسوبة على سعوديين يهاجمون السعودية نفسها خرج أنها تُدار من قطر وبريطانيا. وحسابات تصنع فتنًا بين المغرب والجزائر ثبت أنها تأتي من دول أوروبية لا علاقة لها لا بالمغرب ولا بالجزائر.
ولم يتوقف الأمر هنا ، فهناك حسابات تظهر بهوية سورية وطنية تدافع عن الشعب السوري أو تهاجم أطرافًا معينة، اتضح أنها تُفعل من إسطنبول ، وحسابات بأسماء فتيات خليجيات اكتُشف أنها تُدار من داخل بريطانيا. ومع الوقت بدأت صورة أوضح تظهر : نمط واحد مشترك يجمع أغلب هذه الحسابات.
آلاف الحسابات التي تكتب بالعربية الفصحى أو لهجات عربية دقيقة ، تهاجم العرب وتؤجج عداءً بين البلدان، لم يكن يشغلها عرب أصلً ا، بل يتم إدارتها من داخل إسرائيل، وتحديدًا من داخل الوحدة 8200، وهي وحدة متخصصة في الحرب السيبرانية وتحليل اللغة العربية وتزييف اللهجات وصناعة الانقسامات داخل المجتمعات العربية.
هذه الوحدة معروفة منذ سنوات بأنها مسؤولة عن حملات تستهدف الداخل العربي بهدف تأجيج الصراعات وإحياء العصبيات وتشويه العلاقات بين الشعوب. لكن هذه المرة لم تبقِ نشاطاتها خلف الستار ، بل ظهرت فجأة أمام الجميع بفضل ثغرة صغيرة أتاحها التحديث. اتضح أن الحسابات التي تظهر كأنها “مصري أصيل” أو “سعودي أصيل” أو “ريم” أو “عمر” لم تكن سوى واجهات رقمية تُشغل من داخل وحدات عسكرية إسرائيلية متخصصة في صناعة محتوى موجه بدقة لخداع المتلقي وإيهامه بأن هناك غضبًا عربيًا متبادلًا وحروباً كلامية لا تهدأ.
ومع ذلك ، لم تكن الفضيحة مقتصرة على المنطقة العربية فقط. فالتحديث نفسه كشف للمستخدمين في الولايات المتحدة أن الحسابات الأكثر تطرفًا في الخطاب السياسي الأمريكي – تلك التي تشعل الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين – لم تكن تنطلق من أمريكا أصلً ا، بل من روسيا والهند وبنجلاديش وإسرائيل أيضًا ، وهو ما فتح الباب أمام حالة ذهول عامة جعلت الكثيرين يشكون في كل ما يقرأونه يوميًا.
وفي أقل من ساعة واحدة من انتشار هذا الاكتشاف، اختفت أغلب هذه الحسابات دفعة واحدة، وانطفأت تمامًا، ثم سارعت إدارة إكس إلى إزالة الخاصية وإغلاق الباب أمام أي محاولة أخرى لكشف المواقع الحقيقية. لكن الضرر كان قد وقع ، والستار تمزق ، والعالم شاهد ما لم يكن متوقعًا أن يراه.
الأغرب أن هذه ليست أول مرة ينكشف فيها شيء مشابه. فقبل أسبوعين فقط ، أوقف ماسك الترجمة التلقائية من العبرية على منصة إكس بعد أن فضحت الترجمة حجم التحريض والكراهية التي تمتلئ بها الحسابات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ، سواء كانت حسابات رسمية أو غير رسمية ، دون أن تتعرض لأي عقوبة أو حظر ، في الوقت الذي تُعاقب فيه الحسابات التي تتحدث عن غزة أو فلسطين فورًا بالمنع أو خفض الوصول. ومع توقف الترجمة التلقائية ، بدا الأمر كأن المنصة لا تريد للعالم أن يعرف ما يُكتب بالعبرية.
وفي تقارير دولية أخرى ، تبيّن أن بعض الموظفين السابقين في جيش الاحتلال يعملون الآن في فرق الإشراف على المحتوى داخل المنصة ، وهو ما يفسر التحيز الواضح في معالجة المحتوى العربي مقارنة بالمحتوى الإسرائيلي، ولماذا يتم التضييق على الخطاب العربي بينما يُترك الخطاب التحريضي الآخر دون قيود تُذكر.
ومع اتضاح كل هذه التفاصيل، أدرك الملايين من مستخدمي المنصة أن كمّ الكراهية والصراعات التي تتكرر يوميًا أمامهم ليس انعكاسًا حقيقيًا لمشاعر الشعوب ، بل نتيجة حملات منظمة تستهدف الوعي الجمعي العربي ، وتعمل على إشعال الخلافات وصنع عداوات وهمية، وتضخيم الإحساس بالعزلة والانقسام في كل دولة وعلى مستوى المنطقة بأكملها. وكل ذلك على منصة واحدة فقط. فما بالك بما يختبئ خلف جدران منصات أكبر وأكثر انتشارًا مثل فيسبوك وإنستغرام وغيرها؟
بهذا الشكل ظهرت الحقيقة واضحة : الكثير مما نراه ليس تعبيرًا عن مشاعر الشعوب، بل إنتاجاً لحملات موجهة بدقة تهدف إلى تقسيم الناس ، وصناعة واقع افتراضي يبتلع الحقيقة ويحولها إلى ضجيج بلا أساس.



