ابداعات

نشوةٌ بلا إثم 

 

 

بقلم: ضياء علي الدعاس 

 

 

 

هناك أشياء صغيرة في الحياة نستهين بها، ثم نكتشف لاحقًا أنها كانت تمسك أرواحنا من السقوط..القهوة واحدة من هذه الأشياء… ذلك السائل الأسود الذي يسخر منك ومن همومك، ثم يعطيك على نحو غامض القدرة على تحملها.

 

القهوة ليست شرابًا، ولا هي عادة يومية بريئة،هي اتفاق غير معلن بينك وبين العالم.. أنا أعطيكم يومًا آخر من عمري… وأنتم تعطوني فنجانًا يُبقيني على قيد الاحتمال.

 

كنت دائمًا أقول إن الإنسان لا يحتاج إلى معجزة كي ينهض من فراشه، هو يحتاج فقط تلك الرائحة التي تتسلل في الصباح، تبدو كصوت يقول لك: “لا تقلق… لن يكون اليوم أفضل، ولكنك على الأقل ستكون مستعدًا له.”

 

ولذلك قال نزار قباني بتلك الخفة التي يحسدها الجميع

القهوة لا تُشرب على عَجَل، القهوة أُنس في وقت لا أُنس فيه.

 

القهوة يا صديقي هي لحظة مصالحة مع نفسك؛ أنت لا تشربها لتصحو…

أنت تشربها لتتأكد أنك ما زلت هنا، وأنك رغم كل شيء لم تنس كيف تكون إنسانًا.

 

إنها نشوة بلا إثم؛ فالعالم مليء بالخمر التي تُذهب العقل، لكن القهوة وحدها تُعيده إليك، يعقله ويهذبه، وتجعله قابلًا للاستخدام مرة أخرى..

 

وحين تجلس وحدك مع فنجانك، تبدأ تلك الحرب الصغيرة بينك وبين رأسك..ذكريات لا تريدها تأتي فجأة، وأفكار تظن أنك دفنتها منذ سنوات تظهر كأن أحدهم أيقظها عمدًا، ومخاوفك القديمة تخرج لتمارس رياضتها الصباحية عليك

ولكن… كل هذا يحدث ببطء، بنعومة، بطريقة تشبه طبيبًا خبيرًا يفتح جرحًا باردًا كي ينظفه.. ولهذا السبب تحديدًا، القهوة ليست مجرد شراب… إنها علاج لا يصفه الأطباء، ولكن يصفه كل من بقي حيًا رغم كل ما مر به.

 

نحن نشرب القهوة لأن الحياة واسعة ومزعجة أكثر مما يجب، ولأن البشر يخذلوننا أكثر مما ينبغي، ولأن الأيام تملك موهبة شريرة في ألا تأتي كما نريد… فنبحث عن شيء صغير يذكرنا أننا قادرون على البداية من جديد… ولو لشربة واحدة.

 

القهوة تمنحك ذلك الوهم الجميل بأنك تسيطر على يومك، وبأنك لسبب لا تعلمه أقوى بقليل مما كنت عليه قبل دقائق..وهذا الوهم… صدقني… أغلى من الحقيقة نفسها أحيانًا.

 

ولهذا، حين يقال إن القهوة عادة، 

أبتسم..

لان بعض العادات ربما لا تنقذ أحدًا..

لكن القهوة… كانت وما زالت تنقذنا من أنفسنا، وتعيد ترتيب خرابنا الداخلي، وتقول لنا بصوت منخفض، كما يقول صديق حكيم بعد منتصف الليل

“اهدأ… كلنا محطمون، لكننا سنكمل.”

 

وهكذا تمضي الحياة، وتبقى القهوة أكثر الأشياء صدقًا فيها؛ 

نشوة بلا إثم، وسكينة بلا افتعال، وذكرى صغيرة بأن الإنسان مهما تظاهر بالقوة… يحتاج دائمًا إلى شيء دافئ يمسك يده من الداخل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!