مقالات

العالم الإسلامي : الكفة الفارقة في إعادة رسم النظام الدولي الجديد

✍️ يوحنا عزمي

مع التحولات المتسارعة في بنية النظام الدولي ، ودخول العالم مرحلة مخاض تاريخي نادر لا يتكرر إلا في لحظات فاصلة من عمر البشرية ، تتغير قواعد اللعبة الكبرى التي حكمت العلاقات الدولية لعقود طويلة.

فالعالم لم يعد يتحرك داخل إطار القطب الواحد الذي تشكل بعد الحرب الباردة ، بل يشهد اليوم تصدعات عميقة تمهد لولادة نظام جديد تتنافس فيه القوى الكبرى على إعادة رسم خرائط النفوذ والهيمنة.

صعود الصين كقوة عظمى موازية للولايات المتحدة لم يعد مجرد احتمال نظري ، بل أصبح واقعًا يتجسد في الاقتصاد والتكنولوجيا والتأثير السياسي، في الوقت الذي تحاول فيه روسيا فرض تصورها لعالم متعدد الأقطاب، تسقط فيه فكرة التفرد بالقرار الدولي وتعود فيه موازين القوة إلى حالة أكثر تعقيدًا وتشابكًا.

وسط هذا الزلزال الجيوسياسي ، يبرز العالم الإسلامي بوصفه المساحة الأكثر حساسية وتأثيرًا في معادلة الصراع الدولي، ليس فقط كمنطقة جغرافية واسعة تمتد من أطراف آسيا إلى قلب إفريقيا ، بل ككتلة حضارية وبشرية واقتصادية تتحكم في مفاصل حيوية لا يمكن تجاوزها.

في لحظة إعادة ترتيب الأحجار العملاقة على رقعة الشطرنج الدولية ، يتحول العالم الإسلامي إلى الكفة المرجحة التي لا يمكن لأي قطب أن يحقق تفوقًا حاسمًا دون أن تكون هذه الكفة مائلة لصالحه ، أو على الأقل غير معادية له.

النظر إلى خريطة العالم يكشف بوضوح أن العالم الإسلامي يحتل موقع القلب من هذا الكوكب ، فهو يسيطر على أهم الممرات البحرية ، ويشرف على طرق التجارة العالمية ، ويحتضن أكبر احتياطات الطاقة التقليدية، فضلًا عن موقعه الرابط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. هذه الجغرافيا لم تعد مجرد امتداد صامت ، بل أصبحت عامل قوة ضاغط، يجعل من السيطرة السياسية والاقتصادية على هذه المنطقة شرطًا أساسيًا لحسم الصراع الدولي الدائر.

لذلك ، فإن معركة النفوذ العالمية لا تُحسم في شرق آسيا وحده ولا في أوروبا الشرقية فقط ، بل تمر حتمًا عبر بوابة العالم الإسلامي.

في هذا السياق ، يمكن القول إن ميزان القوة بين الولايات المتحدة والصين يتوقف بدرجة كبيرة على موقع العالم الإسلامي من هذا الصراع. فإذا نجحت واشنطن في استمالة هذه الكتلة الجيوسياسية الكبرى إلى صفها، فإن قدرة الصين على تحقيق تفوق عالمي ستتراجع بشكل حاد ، والعكس صحيح تمامًا ؛ فنجاح بكين في بناء شراكات استراتيجية عميقة مع دول العالم الإسلامي قد يمنحها أفضلية حاسمة في الصراع على قيادة النظام الدولي الجديد.

من هنا ، يصبح العالم الإسلامي هو بيضة القبان في هذه الحرب الباردة الجديدة ، حتى وإن اختلفت أدواتها عن صراعات القرن الماضي.

هذا الإدراك المتزايد يفسر بداية تنافس لم يصل بعد إلى ذروته بين القوى الكبرى على كسب ود هذه المنطقة.

الولايات المتحدة بدأت ، ولو بشكل تدريجي ، في مراجعة استراتيجيتها التقليدية التي قامت لعقود على إدارة الضعف والانقسام داخل العالم الإسلامي ، لتتجه نحو تصور جديد يرى في قوة هذه المنطقة وتحالفها خيارًا أكثر واقعية لحماية المصالح الأمريكية في مواجهة الصعود الصيني.

في المقابل ، لا تزال الصين في مرحلة جس النبض، تحاول صياغة استراتيجية واضحة المعالم للتعامل مع العالم الإسلامي ، تجمع بين الاقتصاد والبنية التحتية والشراكات طويلة المدى ، دون أن تنزلق إلى صدامات سياسية أو عسكرية مباشرة.

ما يمكن الجزم به اليوم هو أن النظرة الدولية إلى العالم الإسلامي لم تعد كما كانت في العقود السابقة ، حين كان يُنظر إليه كساحة أزمات أو هامش ملتهب على أطراف النظام الدولي.

القوى الكبرى باتت تدرك أن هذه المنطقة هي العقدة الحاسمة التي ستحدد من يقود العالم في المرحلة المقبلة، سواء استمر النفوذ الأمريكي أو انتقل تدريجيًا إلى الصين. وبين هذين الخيارين ، يملك العالم الإسلامي فرصة تاريخية نادرة لإعادة تعريف موقعه ودوره ، ليس كموضوع للصراع، بل كفاعل مؤثر فيه.

وكلما ازداد مستوى التعاون والتنسيق بين دول العالم الإسلامي، وارتفعت قدرتها على صياغة مصالح مشتركة ورؤية موحدة ، زادت مكاسبها من هذا التحول العالمي الكبير. فالوحدة النسبية ، حتى وإن كانت اقتصادية أو سياسية مرحلية ، كفيلة بتحويل هذا الثقل الجيوسياسي إلى قوة تفاوضية حقيقية، تفرض شروطها وتحمي مصالحها في نظام دولي يعاد تشكيله من جديد ، وقد لا تتكرر فرص التأثير فيه بهذا الحجم مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!