مقالات

لماذا لا يمكن أن تصبح أي دولة عربية حالية قوى عظمى ؟

✍️ يوحنا عزمي

في اللحظة التي يبدأ فيها النظام الدولي بالتحول ، يعود سؤال جوهري ليفرض نفسه بقوة : لماذا لا تستطيع أي دولة عربية ، مهما امتلكت من ثروات وإمكانات ، أن تصبح قوة عظمى بالمعنى الحقيقي المتعارف عليه في عصرنا الحديث؟

هذا السؤال ليس ترفاً فكرياً ولا مجرد مقارنة عابرة ، بل هو مدخل لفهم طبيعة العالم الجديد الذي يتشكل ، وكيف تُصنع القوى المؤثرة فيه ، ولماذا يظل العرب ــ رغم امتلاكهم مواد خام هائلة وموقع جغرافي فريد وثروات طاقة من الأكبر في العالم ــ عاجزين عن بلوغ سقف القوة العظمى.

عندما ننظر إلى القوى التي ستتربع على هرم التأثير العالمي خلال العقود القادمة ، نجد الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والهند والبرازيل ، وكلها كيانات تمتلك مساحات شاسعة ، وحدوداً طويلة ، وتنوعاً سكانياً وعرقياً واقتصادياً وطبقات اجتماعية واسعة ، وموارد طبيعية ممتدة عبر آلاف الكيلومترات ، وسوقاً داخلية بعشرات أو مئات الملايين ، ما يمنحها حصانة ذاتية ومخزوناً استراتيجياً يسمح لها بالصمود في وجه الضربات الاقتصادية والحروب والتقلبات الدولية.

بينما يكفي أن تنظر إلى الخريطة لتدرك فجأة أن أي دولة عربية، مهما ارتفع ناتجها أو توسعت قدراتها العسكرية ، ستظل محكومة بقيد الموقع والمساحة والكثافة السكانية وتشتت الموارد وضرورات الأمن القومي.

قد تبدو السعودية والجزائر ومصر الأكثر قدرة من حيث الموقع والموارد والإمكانات البشرية على الاقتراب نظرياً من مستوى الدول الكبرى، لكن حتى هذا الاقتراب يظل محدوداً بسقف لا يمكن تجاوزه في عالم اليوم.

فالمعايير التي كانت تُصنع بها الإمبراطوريات قديماً ــ مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا ــ لم تعد تصلح في العصر الحالي. تلك الدول نفسها لم تعد اليوم قوى عظمى مستقلة ، رغم عضوية بعضها الدائمة في مجلس الأمن. قوتها الآن تُشتق من وجودها داخل كتلة أكبر : الإتحاد الأوروبي.

فلم يعد ممكناً مقارنة فرنسا أو بريطانيا بالولايات المتحدة أو الصين ، ولا حتى بروسيا التي يمتلك اقتصادها ناتجاً أقل من اقتصادهما ، لأن معيار القوة العظمى لم يعد الاقتصاد وحده ولا التفوق العسكري وحده ، بل مزيج من الحجم الجغرافي، الكتلة السكانية ، تنوع الموارد ، التأثير التكنولوجي ، الاتساع الجيوسياسي ، والقدرة على الصمود في حرب طويلة أو حصار واسع دون انهيار داخلي.

وبناءً على هذه الحقيقة ، تظل الدول العربية ، مهما تقدمت منفردة ، محكومة بأن تبقى تحت مظلة قوى عظمى أخرى ، أو بلا حماية سياسية في لحظات الاضطراب العالمي. فلا دولة عربية تستطيع ــ بمفردها ــ صناعة توازن عالمي أو فرض معادلة استراتيجية تتحدى القوى الكبرى.

وحتى اللحظة التي يُطرح فيها السؤال الأكثر حساسية :  هل يمكن للعرب أن يصبحوا قوة كبرى من خلال التكتل؟

الجواب نعم ، ولكن بشرط أن يكون التكتل قائماً على رؤية مدروسة وواعية ، تحاكي نموذج الإتحاد الأوروبي لا من حيث الشكل ، بل من حيث الفكرة : اتحاد يحافظ على سيادة الدول ويحمي خصوصياتها ويُدار بمبدأ المصالح لا الشعارات ، ويُبنى على التكامل لا الهيمنة ، وعلى الاحترام المتبادل لا الرغبة في تصدير نموذج حكم معين.

لكن المحاولات السابقة لإنشاء تكتلات عربية سقطت لأنها قامت على نزعات شخصية ، أو حسابات أيديولوجية ، أو مشروعات زعامة غير ناضجة ، وتحولت من فرص واعدة إلى مصدر فوبيا بالنسبة للأنظمة ، حتى أصبحت أي فكرة للوحدة تُقرأ فوراً كتهديد مباشر للسلطات القائمة ، لا كمنفعة استراتيجية مشتركة ، فحُكم عليها بالفشل من قبل أن تبدأ.

ورغم ذلك ، تبقى تجربة الاتحاد الأوروبي مثالاً حياً على   أن التكتل لا يعني خسارة السيادة ، وأن التعاون لا يتعارض مع خصوصية الأنظمة ، وأن بإمكان الدول أن تتقدم خطوة خطوة عبر منظومة مرنة تراعي اختلافاتها وتخدم مصالحها المتوازنة. ليس المطلوب استنساخ التجربة ، بل إنتاج نسخة عربية تراعي طبيعة المنطقة ، وتتناغم مع تركيبتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وتستوعب الفوارق بين الدول دون أن تتحول إلى مشروع احتواء أو ابتلاع ،  بل إلى منصة حقيقية لتعظيم القوة الجماعية.

وإذا وُجدت رؤية واضحة وإرادة صادقة لدى القادة ، فأبواب التاريخ تظل مفتوحة في لحظات التحول العميق مثل تلك التي يعيشها العالم اليوم. قد تكون هذه المرحلة فرصة نادرة لتأسيس كيان عربي جديد ، مختلف في جوهره عن التجارب السابقة ، قادر على تجاوز عقد الماضي ، وأن يكون قوة فاعلة داخل النظام الدولي القادم ، لا مجرد ساحة تتصارع عليها القوى العظمى.

إن اللحظة العالمية الحالية ليست مجرد زمن تغيير ، بل قد تكون لحظة ميلاد جديدة لمنطقة كاملة إذا التقت الرؤية بالإرادة ، وإذا أدرك العرب أن زمن الدول المنفردة قد انتهى ، وأن مستقبل القوة الحقيقي يُصنع في الكتل الكبرى ، لا في الجزر المعزولة مهما بلغت ثرواتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!