ابداعات

لماذا دوستويفيسكي؟ 

أحمد المقدم

 لماذا دوستويفيسكي؟ 

على الرغم من ثراء الأدب الروسي و تميزه بين نظرائه و تفرده بالعديد من الكتاب الذين قد أثروا بكاباتهم الروح والعقل معا، يظل فيودور دوستويفيسكي (١٨٢١-١٨٨١) هو الأبرز حضورا في الأذهان من بين الأدباء الروس.

وعلى الرغم من نزعة دوستويفيسكي الشوفينية و حبه لوطنه الذي قد آسى فيه من ويلات الفقر و ظلم القيصرية ، إلا أن خبراته قد تمخضت عن أدب قد تجاوز الزمكان وهذا ينم عن سر من أسرار السرد الدوستويفيسكي الذي يخاطب النفس مهما تعددت ابعاد الزمان والمكان ومهما تباينت وجوه الثقافة.

ولد دوستويفيسكي في صميم الريف الروسي و نشأ على حب الدين وقد تأثر منذ طفولته بالثقافة الريفية الروسية وما في الريف من نقاء وتأمل وقد كان قارئا نهِما قد ألهمه الكثيرون لا سيما تشارلز ديكنز(١٨١٢-١٨٧٠) (رغم أن الفارق الزمني بينها سنتين فقط، بالإضافة إلى الشاعر الألماني جوتا والذي قد بدأ في قراءة اعماله وهو في الرابعة عشر، وكونه روسيا فكان لابد ان يتأثر بشاعر الروس الأول بوشكين.

ولعل السر الاعظم لتفرد دوستويفيسكي ما له من قدرة لا تضاهى في سبر اغوار النفس البشرية وتصوير الحزن بكل تفاصيله. فقد كان تحليليا نفسيا وهو الذي جعل مؤسس، علم التحليل النفسي سيجموند فرويد ممن تأثروا كثيرا بكتاباته. ولعل راسكولنيكوف في رواية الجريمة والعقاب من أكثر من يمثل طبيعة النفس البشرية المتأرجحة بين نوازع الخير ودوافع الشر. وعندما تطالع عبارات دوستويفيسكي المصورة لاعمق درجات الحزن تشعر فورا وكأن نفسك هي من تتحدث وليس أحد آخر. فقد نجح دوستويفيسكي ببراعة في كشف دواخل النفس البشرية حتى يصير المتأمل في رواياته في مواجهة مباشرة أمام حقيقة اختلاط مشاعره.

لقد كان دوستويفيسكي من المناهضين للقيصر وقد حكم عليه بالاعدام، ثم خُفّف الحكم إلى السجن ثم النفي خارج البلاد لمدة ست سنوات. وقد كان على وشك ان يلقى حتفه حيث تم الإعلان عن تخفيف حكم الإعدام قبل تنفيذه بلحظات إلى أربع سنوات من الأشغال الشاقة وستة المنفى وقد تركت هذه التجربة أثرا عميقا في نفسه حيث قد فهم حقيقة الحياة بين اليأس والأمل في البقاء وقد تلى هذه التجربة واحدة من روائعه وهي رواية الأبله.

وعند قراءة مذلون مهانون، نجد أن دوستويفيسكي قد صور لنا عبث المشاعر بنا وانجرافنا نحو أهواء قد تعصف بأرواحنا وسلامنا الداخلي اللذين لا نلقي لهما بالا في خضم تعلق النفس الغير واع بالآخر وهو ما ظهر في تعلق ناتاشا التي فضلت إهانة كرامتها و أهلها بتعلقها وهروبها مع أليوشا بن الأمير رغم معرفتها برعونته وعبثيته ولكن ثمة تعلق غير مبرر يجعلها فى علاقة غير عقلانية به وهو ما جعل إيفان بتروفيتش في تواصل مربك معها من أجل أن يسري عنها وهو يعلم لاجدوى، هذه العلاقة.

و أخيرا وليس آخرا، مما يجعلنا منجذبين تجاه أعمال فيودور دوستويفيسكي ومتقتبساته ربما بجانبب فهمه المتمحص لحقيقة الحياة و محاولاته الجريئة للولوج إلى جحيم الحزن ومحاولة تصويره، هو أن هذه المعرفة لا تأتي سوى من شخص قد عرف عن الروح ليس كإنسان أو متأمل فقط، بل كناسك يعرف الدين وكيف هو الطريق إلى السمو الروحي والسلام النفسي. فقد كان دوستويفيسكي من أشد المعجبين بالقرآن الكريم. فبينما كان بالمنفى، طلب دوستويفيسكي من أخيه ميخائيل ان يرسل له نسخة من القرآن كي يقوم بدراسته والتأمل في معانيه فها هو حزء من مراسلاته لأخيه يقول فيه:” سوف نلتقي يا أخي قريبا، أشعرُ بأن روحي شفافة ورائقة في هذه اللحظة، المستقبل لي، المستقبل كله لي، وأرى منذ الآن ما سأفعله، كما لو أنه تحقق الآن أمامي، أنا راض عن حياتي، أرجوك أن ترسل لي القرآن، ونقد العقل الخالص لكانط وكتاب هيجل عن تاريخ الفلسفة.” فلا يليق بشخص احترف سبر أغوار النفس البشرية سوى ان يسلك طريقا إلى أعظم كتاب يحوى من معان السمو روحي وتهذيب النفس البشرية ما يجعل شخص مثل دوستويفيسكي يقع في حب كل من سبقوه إليه ويغبطهم كما كان الحال في مواطنيه بوشكين و ليوتولستوي. كما تأثر بآراء الفيلسوف توماس كارلايل والذي تحدث عن عظمة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في غير مرة وفي أكثر من رواية اعجابه بشخص النبي وبأخلاق المسلمين. ولعل هذا من الأسرار التى تجعل لأدبه قبولا واستحسانا فطريا لدى القراء المسلمين دون أن يعلموا مدى تأثره بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك بالإسلام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!