بقلم – جلال الدين محمد:-
ساحة مهيبة تتصدرها منصة عالية عليها مقعد عظيم، حيث من المقرر أن يجلس أكبر قضاة البلاد، فالخطب شديد، واجتمع الناس من كل فج عميق ليشهدوا المحاكمة المرتقبة.
حُبست الأنفاس حين دخل القاضي، وقف الجميع احترامًا وتبجيلًا لممثل العدل في جلسة اليوم، أشار بدوره للناس بالجلوس، ووجه بصره تلقاء الحاجب، الذي فهم بدوره الأمر ونادى على القضية.
دخل حُراس ضخام الجثة يسحبون المتهم، الذي تم إيداعه قفص الاتهام، وسط همهمات ونظرات سخط من حضور منحوا أنفسهم الحق في تصنيفه كجاني قبل حتى أن تبدأ المحاكمة.
أشار القاضي لممثل الإدعاء أن يتحدث، فوقف الأخير وكانت عيناه توجه أسهمًا من جمر تلقاء المتهم، وسن الكلمات لتكون أحد من شفرة بتارة على جسد تعيس الحظ في قضية اليوم.
قال المُدعي: سيدي القاضي إن الناس لهم الحق في الحصول على ما يحلمون به، وهذا الماثل أمامنا كم عذبهم في سبيل ذلك، وجعلهم يقضون الليالي في ترقب وضيق، وقد أرق مضاجعهم وعكر صفو أيامهم.
سيدي القاضي، الجمع الحاضر يشهد على عدد المرات التي وقف فيها “الانتظار” حائلًا بين المرء وما مد يداه لأقصى مدى في سبيل قطف ثمراته، وجاءني من يحمله مسؤولية ضياع عيناه من شدة البكاء نتيجة لألم أصابه حين حرمه أمنيته.
هناك من فقد حياته ولم يبلغ ما يريد لأنه كان على الطريق، ومن لم يعد يشعر بقيمة شيء ولا جدوى ما يقضيه من وقت، بعد أن تحول لما يشبه الثور المربوط بساقيه يدور ويدور بلا نهاية. ولا أرى مسؤولًا أمامي سواه، فلا تُشفق عليه عدالتكم، وأنزل به أقصى عقاب ممكن.
هتف الحضور في صوت واحد مؤيدين ما قاله المُدعي، وموجهين أقصى أشكال السباب للانتظار الذي يرتعش في قفصه الضيق. أمر القاضي الجميع بالصمت، فهدأت القاعة تمامًا، لاسيما مع وعيده بمعاقبة من يتجاوز حدوده في المحكمة. ثم قال للانتظار: ماذا تقول دفاعًا عن نفسك؟
نهض “الانتظار” وبدا مترددًا للحظات قبل أن يستجمع شجاعته ويتلو الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
سيدي القاضي في الدين اسمي هو الصبر، وأنا مفتاح الفرج، لا أقول أني بالأمر الهين، فالمظلوم قد يعيش عمرًا قبل أن يسترد حقه، والساعي يخيط الأيام مع السنين ليتمكن من نسج مبتغاه فأنا مر بل شديد المرارة، ولكن السؤال على من؟!
يقول تعالى “واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين”. أنا يا سيدي مرادف لليقين، ومحفز على العمل، انظر في سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، ألم يعد الصحابة بملك كسرى وقيصر وهو يحفر الخندق جائعًا في صحراء مقفرة؟!
أيها القاضي من يُدرك حقيقتي يعلم أني سبيله للقرب من الله، ومفتاحه لبلوغ رحمته، وشهادة مرور إلى الجائزة الأكبر وهي الجنة، وأنا بعدي اليسر والرحمة مهما طال الأمد معي. من يراني شيطانًا هو من لم يبلغ مراتب الإيمان التي تجعله يبصر عن طيب خاطر حقيقتي.
ولي يا سيدي علاج، الدعاء أقوى الأسلحة وأحدها حين يخرج من قلب صادق يفتح الله لصاحبه أبوابي ويجعلني من الماضي، ويجمع الأماني مع من صرخوا طويلا طلبا لها.
سيدي القاضي أنا امتحان لكل عبد في هذه الدنيا، فمنهم من يُبتلى في تأخر الولد، وهناك من يُمتحن بالفقر، وثالث بالمرض، ورابع بالسجن، كما أختبر أنا به اليوم، وأنتظر في مشقة وألم وأقصى درجات التعب، أصبر على من جعلني جانيًا حتى قبل المحاكمة، انتظر حتى تُبصر عدالتكم براءتي.
سكت القاضي لوهلة وقلب في أوراقه، ثم قال: الحكم بعد المداولة.