زينب عبد الحفيظ
“أرهف السمع، أمعن… حفيف، أليس كذلك؟
كأن الأشجار تُنذر بقدوم شيءٍ مجهول. هل التقطت أذناك ما يدور، أم لم تفلح بعد؟
وقعُ حوافرٍ تضرب الأرض، بينما قلبك يدقّ في ترقّب. لا تزُمّ، بل أرسِل مقلتيك على ذاك الظلّ القادم… تمعّن. لم تتبيّن لي ملامحه بعد.
وجومٌ طاف بالمكان، نفضت الغربان أجنحتها وفرّت باستنفار.
قف بعتمة الديجورة، بل تخلَّف خلف الجبال لترى ما يدور.
عربة مجرورة من قِبَل جوادين؛ أحدهما أسود قاتم، والآخر أبيض لا تشوبه شائبة.
يسيرون في قلب الغابة، يدهسون الأعواد الجافة، فيدوي صوت الانكسار فينخلع له السكون.
بقيادة امرأة فاتنة، ملتحفة بالمقت، تعتق في عينيها الفجور، تقود الحصانين من فوهة العربة، بينما هي مقادة من قبل الشياطين.
هل رأيت ما أراه؟
تشق الغابة، تجرّ خلفها السخط، إلى مدينة يتراقص بها الشر والكفور بتناغم.
أنت بداخل بابل، مدينة السحرة ذوي الدماء المتسخة.
تلوّث سحر سليمان، ودنّسته الشياطين، بل اغتنمته ونثرته على عبادٍ يتلهفون لأذية بعضهم البعض، ويتسابقون أيّهم أشدّ خسةً وتدنّيًا.
دلفت المرأة أسوار الشر، نفرت عنها الحذر، وضربت بسَوطها الحادّ ظهر الجوادين.
ركضا، وذاع صهيلهما في الأجواء.
خلعت حجابها، فاسترسل شعرها ليتغنج بفعل الهواء.
تمتمت بكلمات سباب، فاشتدّ وطء الشرّ في خلدها.
امرأة يُحكى الجمال عنها بحقد، وتستحي الفتنة من فرط ليونتها وغنجها.
هبطت من العربة بدلالٍ لا يتماشى مع ثورة دمائها، رفعت أطراف ثوبها، ولمع في عينيها دهاءٌ شيطاني.
بخطوات مدروسة تحفظها عن ظهر قلب، دلفت إلى أحد الممرات الضيقة حتى وصلت إلى مبتغاها.
الآن، تحت أضواء المصابيح الوهاجة، لديك فرصة أن ترى وجهها…
فأخبرني بربك، هل رأت عيناك سحرًا كهذا؟
لقد تقاسمت الفتنة مع الإغواء، تحوّلت إليها كل الرؤوس، رغم أن الجميع هنا سحرة متمكنون، إلا أنها استطاعت أن تلجمهم، وكأنها نثرت على عقولهم نبيذًا مسكرًا.
أفسحوا لها الطريق دون نزاع.
ما لي أرى الدهشة تحتل ملامحك؟ ألم تعرفها؟
إنها “زهرة”، أشد النساء فتنةً في التاريخ. سالبةٌ للأنفاس، ممزّقةٌ للوعي، مخضعةٌ للقلوب، لا قيود ولا حدود لفجورها.
تنحّت لها الصفوف، وأكملت خطواتها داخل قبو العلوم، المكان أشبه بالكهوف المعزولة عن العالم.
بأول خطوة داخله، صمتت الآذان عمّا يدور بالخارج، وكأن الجدران عازلة للصوت.
وفجأة، دوّى صوت وخيم قائلًا:
“إنما نحن فتنةٌ، فلا تكفر.”
طافت بعينيها ببرودٍ ماكر، وافترّت شفتاها بخبث، وتمتمت بخفوت:
“بل سأجعل الكفر ضيفًا لهذا المكان.”
رفعت رأسها بغطرسة مشبعة بثقةٍ محتدمة، وقالت:
“مرحبًا… من يتحدث؟”
فلم يمكث إلا قليلًا، حتى أطلّ عليها رجل من خلف الجدار، متلحّفٌ بملابس بيضاء:
“مرحبًا بكِ في كهف السحر، أنتِ الآن بحضرة الملكين: هاروت وماروت.”
تلون وجهها بالزيف…
أنظر يا رجل، يا له من خداع!
النساء مخيفات بحق، ألم يكن الشر ينسكب من عينيها منذ قليل؟
والآن؟ أنظر! لا أُصدّق ما يدور، مقلتاها امتلأتا بالبراءة.
مكثت، ومكث معها الشر، وارتوت من علوم السحر كؤوسًا متدثّمة.
ارتوى عقلها وتشبع بالكنوز.
لكن غريزتها ما زالت تتأجج…
تريد أن تنتشي بإسقاط الفضيلة ومدّعيها.
لم يُعطها الملكان فرصة الولوج بعقولهما، أو كسر حدودهما.
لكن… للنساء طرقٌ ألعن من لعن اللاعنين.
ركّز معي، وعاود إرهاف السمع…
هسيسٌ يدوي بالأجواء…
هل اقتحمت الأفاعي المكان برأيك؟ لا… بل انظر إليها…
هذا صادر منها.
عاد الخبث وتربّع في العيون… أظنها بلغت ذروة الشرّ.
تتجمّل أمام المرآة، تقف بنعومة، وتُلقي على هيئتها الفتنة، وتمشّط شعرها الثائر بمشط الدهاء،
ترتدي الفُسوق، وتتعطر من اللؤم، حتى بدت كأمرأة خُقلت من غواية .
غضّ بصرك يا هذا.
تقدّمت نحو غرفة الطُهر، فتحت الباب، وقالت:
“ها أنا لها… فهل من أحدٍ لي؟”
اللعنة يا رجل!
من سيصمد؟
ومن ستثور غرائزه؟
الرجال… رجال…
اكتم أنفاسك،
ربما يندلع الجحيم فوق رؤوسنا…
أغمض عينيك، أو فُرّ هاربًا حيثما كنت…
اندسّ في الظلام الحالك مجددًا،
فالويل قادم،
والعذاب يزأر بغضبٍ في الآفاق…
أو ربما… سُحرت أعينُنا بكهف مُعبّقٍ بالهواجس.
انقطعت الحكايا…
توقف القلم عن التدوين، بل توقف الزمن ذاته،
لا أحد يعلم ما حدث،
هل ابتلعت الأرض السر، أم ابتلع السر الأرض؟
ثمة من يقول إن الشياطين دنّسوا الحكايا،
ثم أعطوها لأكثر الرجال دناءة،
ليتولوا مهمة تزيينها بالأكاذيب ونشرها كأنها حق،
هل تحوّلت المرأة إلى كوكب بفعل غضب الله؟
أم أن للأسرار جذورًا تمتد في باطن الأرض،
تتغذى من الخوف، وتزهر بالخطيئة.