المُهنّد إسلام
وقفتُ أمامَ الدار،
أو بالأصح… ما كنتُ يومًا أسميه دارًا،
وتحت ضوء الغروب،
استدعى عقلي الذكريات؛ يُعذّبني بها.
أمام البيت الطيني،
وتحت نافذة المطبخ التي كانت أمي تتلصص منها على حكايات جدتي لنا، بينما تخبزُ كعكًا برائحة الدفء،
جلستْ جدتي،
وجلست “أنا القديم” أمامها،
“أنا البريء”، الذي لم يُدرك بعد…
أن الحياة ستقذفه للبعيد.
ضحكتي القديمة تتردد،
وأنا – الحالي – أقفُ مُنصتًا بصمت،
بألم،
أحمل حقيبةً كأنني عابرُ سبيل،
لا كصاحب ديار.
أصبحتُ غريبًا عن هذا المكان،
غريبًا عن هذا الـ”أنا” الذي كنتُه.
لوهلة،
نظرتْ جدتي في عيني،
وابتسمت ابتسامةً صغيرة،
دافئة،
حنونة…
أو هكذا ظننتُ.
عدتُ خطوةً إلى الوراء؛
ليس خوفًا، بل احترامًا للمشهد،
وأصحابِ المشهد الذين أصبحتُ غريبًا عنهم.
نظرتُ حولي طويلًا،
لم يتغير شيء،
لكن تغيّر كلُّ شيء.
نفسُ الهواء…
لكن لا يحمل عطري.
نفس الأشجار…
لكن لم تحفر اسمي.
نفس الرمال…
لكن لم تعرف وقع خطواتي.
حتى الجدران…
نظرت إليّ باستغراب، وكأنها تجهل من كنت.
فهمتُ الآن أنني لا أنتمي إلى هنا؛
فالديار ليست ما نعود إليه،
بل ما يتعرّف علينا عند عودتنا من غياب.
ولم تتعرف تلك الديارُ عليّ،
ولم أتعرّف أنا على نفسي.
لعبتُ دور “كادي” – من المسلسل التلفزيوني –
حيثُ وقفتْ هي تطالع بيتًا محترقًا،
ووقفتُ أطالع ذكرياتي تتهاوى.
الفرق الوحيد… أن النيران في قلبي، لا في الجدران.
ربما كان هذا حقيقيًا؟
أم أن عقلي اختلقه، لأشعر بالحنين والدفء اللذين فقدتُهما؟
أصواتُ الصغار،
رائحة الكعك،
نسيمٌ دافئ،
شمسٌ حنونة،
صوتُ الجدة،
ونظراتُ الأم…
كل هذا اختلقه عقلي لتحمّل الغياب.
تردد في عقلي مقطعٌ ملحّن، يقول:
“لم أملك النبل الكافي لأرحل بكرامة.”
وهكذا كان رحيلي…
بلا كلمات تُذكر،
فقط صمتٌ منكسر.
حقيبةٌ ثقيلة، لكن لا تحملُ شيئًا يُذكر،
إلّا قلبٌ ضلّ طريقه، وضللتُ معه.
رأيتُ في جدتي وميضَ الغفران،
فابتسمتُ لها،
وأدرتُ ظهري…
ورحلتُ.