✍️ بقلم : يوحنا عزمي
منذ إندلاع الحرب الشاملة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 تصاعدت وتيرة العنف لتشمل عمليات واسعة ضد المدنيين ، وخصوصًا في إقليم دارفور حيث تُظهر الأدلة نمطاً متكرراً من الهجمات العرقية والانتقامية وتشريد جماعي.
التحقيقات الدولية والهيئات الحقوقية توثق وقوع مجازر وجرائم إنسانية قد تقترب أو تندرج تحت تعريفات الإبادة الجماعية في بعض الحوادث. هذه الخلفية ضرورية لفهم السيناريوهات القادمة.
لماذا دارفور بالتحديد؟
1. تركيبة اجتماعية ــ عِرقية معقدة وتاريخ طويل من النزاع.
دارفور شهدت منذ أوائل الألفية حرباً بين مجموعات مسلحة محلية وميليشيات (الجنجويد سابقًا) والسلطات المركزية ؛ الانقسامات العِرقية والقبلية أُعيدت إنتاجها سياسياً وعسكرياً ، ما جعل الإقليم ساحة سهلة للتصعيد.
2. موقع استراتيجي وضعف الدولة المركزية
تفتقر دارفور لوجود مؤسسات حكومية قوية وقوة أمن مركزية قادرة على فرض القانون — وهذا يتيح لقوات مسلحة أن تفرض نفوذها بسهولة.
3. الثروات الطبيعية ـ الذهب والموارد الأخرى
خلال السنوات الأخيرة ، أصبحت مناطق دارفور ومناطق غرب وشمال السودان مراكز لاستخراج الذهب والتعدين الحرفي. هذه الموارد ليست فقط مصدر دخل محلي لكن اتخذت طابعاً تجارياً وشبكياً — إذ تحولت إلى مصدر تمويل للميليشيات والجهات المتحاربة.
تقارير بحثية وتحقيقات كشفت كيف تُستغل مناجم الذهب لصالح شبكات مالية مرتبطة بالميليشيات وشركات واجهة، ما يضيف بُعداً مادياً لصراع النفوذ. لذا فالخليط بين هشاشة الدولة ، خيار الكسب السريع من التعدين ، والتنافس على المسارات التجارية يجعل دارفور محط اشتعال دائم.
من يمول قوات الدعم السريع ؟
لا يوجد ممول واحد بسيط ـ الشبكة تمزج بين مصادر محلية وإقليمية ودولية :
عوائد التعدين والذهب : جزء كبير من التمويل يتم داخلياً من السيطرة على مناجم الذهب ، والمبيعات والتهريب عبر شبكات وسيطة. هذه العوائد استخدمت لتمويل شراء أسلحة ومرتبات ومجموعات لوجستية.
علاقات إقليمية ودعم عسكري ـ لوجستي : تقارير إخبارية وتحقيقية أشارت إلى أن دولًا إقليمية مثل الإمارات وبعض الجهات الفاعلة الخليجية زودت عناصر مرتبطة بالدعم السريع بأسلحة ومعدات ، بما في ذلك طائرات بدون طيار وتقنيات مراقبة ؛ بينما نفت بعض هذه الدول الاتهامات بصورة رسمية. الاتهامات حظيت باهتمام جهات رقابية وغربية.
شبكات مالية وتجارية عبر دول الجوار : وجود قنوات لتبييض الأموال وتحويلات عبر شبكات تجارية في دول الجوار سمح بتدفق موارد إضافية إلى ميليشيات المحور.
تقارير من منظمات تحقيقية وصحفية وثقت أمثلة على شركات واجهة وصفقات تجارية مرتبطة بأسماء محسوبة على قادة الميليشيات.
الخلاصة: تمويل الدعم السريع ناتج عن مزيج من الإيرادات الذاتية (معظمه من الذهب والتجارة غير النظامية) ودعم لوجستي ـ عسكري خارجي جزئي ومصادر تجارية إقليمية. هذه التركيبة تجعل قطع التمويل أو إضعافه تحدياً دولياً معقداً.
السيناريوهات القادمة : أربعة مسارات رئيسة
أربعة سيناريوهات متباينة ، مع تقدير للاحتمالات والنتائج المحتملة لكل منها :
1ـ سيناريو الاستنزاف الممتد
إستمرار قتال محدود إلى واسع النطاق بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مع فترات توقف مؤقتة واتفاقيات هشة ، دون حسم سريع لأي طرف. الصراع يتحول إلى حرب استنزاف إقليمية مع تركز استهداف المدنيين والموارد.
النتائج : زيادة تهجير وارتفاع أعداد النازحين واللاجئين، تدهور اقتصادي شامل في السودان وتأثر جيرانها (مصر ، تشاد ، ليبيا ، وسط أفريقيا). استمرارية تجارة الذهب بيد جهات مسلحة تؤمن إستمرار التمويل. المجتمع الدولي يضغط سياسياً ويدعو لعقوبات لكنها تبقى جزئية.
قدرة الطرفين على تجنيد موارد ومصادر تمويل ، وخبرة الطرفين في القتال وعدم وجود حل سياسي.
2 ـ سيناريو التحكم الإقليمي والتسوية المنقوصة
الملامح : دول إقليمية (مصر ، السعودية ، الإمارات وربما تركيا) تُبرم صفقة لحصر النفوذ وتشكيل حكم انتقالي يضمن مصالحها ـ قد يتضمن توزيعاً للسيطرة على الموارد والوظائف الأمنية.
النتائج : وقف واسع لإطلاق النار مع بقاء عناصر مسلحة قوية في مواقعها ، حكم هش ومجزأ ، إستمرار خروقات حقوق الإنسان لكن بوتيرة أقل من المواجهة المفتوحة. قد يتضمن هذا السيناريو استثماراً إقليمياً في إعادة تشغيل بعض القطاعات (معدنية أو زراعية) بناءً على مصالح تلك الدول.
احتمالية متوسطة تعتمد على رغبة وإمكانات الدول الإقليمية في فرض تسوية وإدماج مصالحها، وعلى قبول بعض القوى السياسية السودانية.
3 ـ سيناريو التدخل الدولي المنسق أو إقليمية أمنية موسعة
تصاعد الضغوط الدولية إلى حد فرض عقوبات موجهة، عزل شبكات التمويل ، وفرض حظر متشدد على توريد الأسلحة ، وربما نشر بعثات دولية (مدنية ـ إنسانية ـ أمنية) لحماية المدنيين. قد يتطور إلى عمليات عسكرية محدودة ضد قواعد الميليشيات إذا خُصصت تفويضات دولية.
إمكانية خفض العنف في مناطق حساسة وإنقاذ مدنيين، لكن خطر توسع النزاع وإثارة ردود فعل محلية. أيضًا، نجاح هذا المسار يتطلب إجماعاً دولياً نادراً ( التوافق في مجلس الأمن) ومراقبة فاعلة لقنوات التمويل.
احتمالية منخفضة إلى متوسطة. السبب : الانقسامات الدولية (مواقف متباينة لروسيا، الصين، الولايات المتحدة، الدول العربية) وصعوبة الوصول إلى إجماع لتنفيذ إجراءات قسرية فعالة.
4 ـ سيناريو تفكك الدولة وامتداد الصراع إقليمياً
انهيار كامل لقدرات الدولة المركزية.، تحول السودان إلى موزاييك من دويلات ـ محميات مسلحة تسيطر على مواردها ، وتصاعد النزاعات عبر الحدود (تهريب أسلحة ، انتقال مقاتلين ، انتشار جماعات مسلحة إلى دول مجاورة).
أزمة إنسانية على نطاق إقليمي مع موجات لجوء ضخمة، فصل اقتصادي طويل، وبيئة لإرهاب وانتشار جريمة منظمة عبر الصحراء. تدخلات إقليمية متزايدة ومحاولات لاعادة تقسيم نفوذ.
إحتمال حقيقي لكنه يعتمد على فشل كل محاولات الوساطة وامتداد الحرب. تقارير أمنية حذرت من هذا الإحتمال في حال استمر النزاع دون حلول.
دور مصر بين المصالح والتحديات
مصر تقع جغرافياً واستراتيجياً في قلب انعكاسات الأزمة السودانية :
أمن حدودي ومخاوف لاجئين: مصر تواجه ضغوطًا إنسانية إذا تصاعدت موجات اللجوء عبر الحدود الجنوبية ، وكذلك مخاوف من انتشار الأسلحة والجماعات المسلحة. تقارير صحية وإنسانية تُظهر تأثيرات مباشرة على الخدمات في مصر نتيجة وصول نازحين ومهاجرين.
المصلحة الجيوسياسية: القاهرة تسعى للحفاظ على استقرار الجارة الجنوبية ، لأن أي فراغ أمني يهدد مصالحها (الممرات المائية ، الأمن الإقليمي). لذلك من المتوقع أن تتخذ مصر مزيجاً من الإجراءات : دبلوماسية ، ضغط على الفاعلين الإقليميين ، دعم إنساني ، وربما تواصل استخباراتي ـ أمني لمنع زعزعة استقرار الحدود.
معادلة مصر صعبة ـ فهي لا تريد أن تُتهم بالتدخل أو الانحياز لرجل على حساب آخر ، وفي نفس الوقت تحتاج إلى حماية مصالحها. لذا تميل القاهرة إلى دعم حلول سياسية إقليمية (التفاوض والوساطة) والمشاركة في مبادرات الرباعية الإقليمية وغيرها.
دور المجتمع الدولي
المجتمع الدولي يمتلك أدوات عديدة لكنها محدودة بحوافز السياسة الدولية :
العقوبات المستهدفة وملاحقة شبكات التمويل : يمكن فرض عقوبات ضد قادة ، أو تجميد أصول وشبكات تجارية تستخدم لتمويل العنف ، وهو ما تركز عليه جهات رقابية ومنظمات تحقيق. لكن أثر العقوبات بطيء ويتطلب تعاون بنوك ودول المنطقة.
الضغط الدبلوماسي والوساطة : الأمم المتحدة ، الاتحاد الأفريقي، والجهات الفاعلة الإقليمية تقود محاولات وساطة ـ لكن نجاحها يعتمد على قبول الأطراف وعلى قطع قنوات السلاح والتمويل.
الإجراءات القضائية.: ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية وتوثيق الانتهاكات ترسل رسالة ردع ، لكن تنفيذ الأحكام والقبض على المتهمين عملية طويلة ومعقدة. تقديم ملفات إلى ICC قد يدعم مساءلة المسؤولين لكنه لا يوقف العنف فورًا.
المساعدة الإنسانية: توسيع حزم الدعم للنازحين واللاجئين أمر حيوي. المنظمات الدولية تحذّر من تراجع التمويل والقدرة على الوصول الآمن للمدنيين.
مَن يقف وراء الدعم الإقليمي للدعم السريع؟
اتهامات مباشرة لجهات في منطقة الخليج بتزويد الدعم السريع بمعدات جوية وغير جوية (بما في ذلك طائرات مسيرة) ـ وقد استندت هذه الاتهامات إلى مصادر استخباراتية وتحقيقات صحفية. هذه الدول تنفي في العلن بعض الاتهامات أو تلتزم بالغموض.
الدافع الإقليمي : ضمان نفوذ سياسي واقتصادي (الوصول إلى الموارد ، قواعد نفوذ ، حماية مصالح جيوسياسية) هو ما يفسر، جزئيا ، انخراط بعض الفاعلين الإقليميين في اللعبة السودانية.
ملاحظة مهمة : الاتهامات والتحقيقات قابلة للتصاعد أو للتصحيح مع ظهور أدلة جديدة ـ, لذا من المهم متابعة توثيق الأمم المتحدة والمنظمات الاستقصائية.
هل الثروات الطبيعية هي السبب؟
الجواب : هي عامل مهم لكن ليست السبب الوحيد.
الثروات (خاصة الذهب) تزيد من حدة الصراع عبر خلق حوافز تمويلية للأطراف المسلحة؛ لكنها تعمل عادةً مع عوامل أخرى مثل ضعف الدولة، العُقد العِرقية، التنافس السياسي على السلطة، واستراتيجية انعدام الأمن التي تتغذى عليها شبكات المصالح الإقليمية. بمعنى آخر: الموارد تسرّع التنافس وتجعل الصراع مربحًا للمنظمات المسلحة، لكن الصراع نفسه له جذور سياسية واجتماعية أعمق.
توصيات عملية (للدول المجاورة ، لمصر ، وللمجتمع الدولي)
1. للجوار الإقليمي ومصر : تعزيز آليات الاستجابة الإنسانية على الحدود؛ تنسيق استخباراتي لمراقبة تدفق الأسلحة والمرتزقة ؛ دعم مسارات وساطة تقودها جهات محايدة (مثلاً الاتحاد الأفريقي بالتنسيق مع الأمم المتحدة).
2. للمجتمع الدولي : استهداف شبكات تمويل التعدين والتهريب عبر آليات مالية دولية ، دعم التحقيقات الدولية وتوسيع الحماية للمدنيين ، ورفع مستوى الضغط الدبلوماسي على الجهات المتورطة في تزويد السلاح أو الدعم اللوجستي.
3. للمجتمع المدني السوداني والمجتمع الدولي: دعم توثيق الجرائم وتقديم الأدلة للمحاكم الدولية ؛ توفير قنوات بديلة للاقتصاد المحلي بعيدًا عن سيطرة الميليشيات (برامج اشتغال ، حماية مواقع التعدين القانونية).
مجازر دارفور ليست حلقة منفصلة بل نتيجة لالتقاء أمرين: هشاشة الدولة السودانية وتجارُبها التاريخية في دارفور، وتحويل الموارد الطبيعية إلى رف تمويل للصراع عبر شبكات محلية وإقليمية.
السيناريوهات المستقبلية تتراوح بين الاستنزاف الطويل إلى إحتمال تسويات إقليمية أو حتى تفكك أوسع للدولة، وكل طريق يحمل تبعات إنسانية وأمنية شديدة على السودان والمنطقة. دور مصر والمجتمع الدولي لا يزال محورياً ـ لكن فعالياته مرتبطة بقدرة هذه الفاعلين على قطع مصادر التمويل ، وفرض عقوبات فعالة ، ودفع حلول سياسية جامعة قادرة على قطع دورة العنف والانتقام.




