✍️ يوحنا عزمي
من كولومبيا إلى دارفور : كيف تحولت حرب السودان إلى معركة بالوكالة تمولها العواصم؟
ما يجري في السودان الآن ليس مجرد حرب أهلية عادية كما يُصورها الإعلام ، بل مشهد بالغ التعقيد تُخفي وراءه قوى كبرى الكثير من الأسرار. ففي الوقت الذي تُفرض فيه التعتيمات الإعلامية على ما يحدث على الأرض، بدأت صور تتسرب على مواقع التواصل تُظهر وجود أجانب يتجولون في شوارع سودانية يرتدون زي المدنيين أو عناصر الميليشيات ، وهؤلاء ـ كما اتضح من تقارير وشهادات ـ ليسوا سودانيين على الإطلاق ، بل قدموا من كولومبيا بعد أن تم تهريبهم عبر الحدود مع ليبيا وتشاد ، في عمليات منظمة ومدعومة ، بحسب ما أشارت إليه تقارير دولية عديدة ، إلى أن مصدر الدعم جاء من دولة الإمارات العربية المتحدة.

الحقيقة المؤلمة أن الحرب في السودان تجاوزت كونها مواجهة داخلية بين جيشٍ وطني وقوات دعم سريع متمردة ، وأصبحت حربًا بالوكالة تدور على أرضٍ سودانية ولكن بأيدي ومصالح خارجية.
فالدعم المالي والعسكري القادم من الخارج ، ووجود مقاتلين أجانب، يكشف أن هذه الحرب أُعيد تصميمها لتخدم أجندات لا علاقة لها بمصلحة الشعب السوداني ولا بسيادة بلده.
الأدلة على هذا التورط الخارجي كثيرة ومتراكمة ، من بينها ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في يونيو الماضي ، حين كشفت ـ استناداً إلى مصادر استخباراتية أمريكية ـ أن محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد ميليشيات الدعم السريع ، كان على تواصل مباشر مع الشيخ منصور بن زايد ، نائب رئيس دولة الإمارات وصاحب نادي مانشستر سيتي ، قبل إندلاع الحرب بفترة قصيرة. ووفقاً للتقرير ، فقد تم بالفعل نقل تمويل وتسليح من الأراضي الإماراتية إلى قوات الدعم السريع تمهيداً للقتال ، وهو ما أكد لاحقاً ما كانت تتداوله الأوساط الدبلوماسية عن علاقة خاصة بين الطرفين.
ولم تتوقف الأدلة عند هذا الحد ، فقبل أيام قليلة فقط، خرج وزير الدفاع الصومالي بتصريح صادم في مؤتمر صحفي ، أكد فيه أن طائرات مجهولة تُقلع بشكل منتظم من مطار “بوصاصو” في منطقة بونتلاند الصومالية ـ وهي منطقة ذات حكم ذاتي ـ متجهة نحو غرب السودان ومناطق حدودية في تشاد والنيجر ، حاملة معدات لوجستية غير معروفة الوجهة ، يُعتقد أنها مخصصة لقوات الدعم السريع.
الصور الجوية وتقارير المراقبة الأمريكية كشفت أن أغلب هذه الطائرات تنتمي لشركات مرتبطة بالإمارات ، وأنها تُستخدم في نقل العتاد والمرتزقة عبر مسارات غير رسمية.
الوزير الصومالي أضاف معلومة أكثر خطورة ، إذ قال إن هناك مرتزقة كولومبيين يُنقلون سراً إلى السودان عبر نفس المطار لينضموا إلى ميليشيات الدعم السريع ، رغم أن مصدر تجنيدهم ما زال غامضاً حتى الآن. كل هذه المؤشرات ترسم مشهداً مقلقاً يثبت أن أطرافاً أجنبية تلعب دورًا مباشرًا في تأجيج الصراع وتمديد أمده ، بحثاً عن نفوذٍ جديد أو مواردٍ طبيعية ثمينة ، وليس نصرةً لأي قضية وطنية.
لكن في مقابل هذا التغلغل الأجنبي ، يتحرك الجيش السوداني هذه الأيام بقوة لفرض السيطرة واستعادة المناطق الحيوية. فالتقارير الميدانية تشير إلى أن سلاح الجو السوداني شن ضربات دقيقة على معاقل الدعم السريع في ولايتي غرب وشمال كردفان ، مدمراً أهدافًا ومخازن أسلحة بالكامل. كما تمكنت القوات الحكومية في مدينة الفولة من تصفية أحد كبار المستشارين الأمنيين لحميدتي، وفي اليوم التالي جرى تدمير قافلة إمدادات ضخمة كانت متجهة للدعم السريع بصواريخ موجهة.
بعض المصادر تحدثت حتى عن “طيران مجهول” شارك في القصف ، لكن لا توجد تأكيدات رسمية حتى الآن حول الجهة التي قدمت ذلك الدعم.
وبعد هذه الخسائر المتلاحقة ، أعلنت قيادة الدعم السريع موافقتها على المقترح المقدم من “دول الرباعية” بوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر ، كهدنة إنسانية تمهد لتسوية سياسية. المفارقة أن دولة الإمارات ، التي وُجهت إليها الاتهامات الأخطر بالتورط في تسليح الميليشيات ، خرجت بعد ذلك بوقت قصير لتُصدر بياناً تدين فيه “الفظائع” التي تقع في السودان.
أنور قرقاش ، مستشار رئيس دولة الإمارات ، صرح خلال مؤتمر في البحرين أن بلاده “تدعو إلى وقف الحرب فورًا” وأنها من “أكبر المانحين للسودان”، زاعماً أن بلاده تتعرض لـ“حملات تشويه منظمة”، وأكد أنهم طالبوا بهدنة إنسانية تمتد لثلاثة أشهر وبفتح تحقيق في كل الجرائم المرتكبة. لكنه في الوقت ذاته ، اعترف اعترافاً لافتاً بأن السياسة الإماراتية تجاه السودان كانت “خاطئة”، وبأن بلاده “أخطأت عندما سكتت عن الانقلاب العسكري عام 2021” الذي أطاح بالحكومة المدنية وفتح الباب أمام التحالف المؤقت بين الجيش والدعم السريع، وهو التحالف الذي سرعان ما انهار وأشعل الحرب الحالية.
هذا الاعتراف العلني من مسؤول إماراتي رفيع لم يأتِ من فراغ ، بل جاء تحت ضغط هائل من الرأي العام الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ، خاصة بعد انتشار صور وتقارير تُظهر ارتباط الإمارات بعمليات تهريب الذهب والسلاح وتمويل المرتزقة في السودان. إلا أن هذا التراجع يبدو متأخراً جداً ، فالضرر الذي لحق بسمعة الإمارات السياسية والإعلامية وقع بالفعل ، والعالم صار يتحدث صراحة عن “حرب موارد” تدور رحاها في دارفور وغرب كردفان ، حيث يوجد الذهب واليورانيوم وغيرهما من الثروات الطبيعية الهائلة التي تحولت إلى جوهر الصراع.
تقرير منظمة Swiss Aid الأخير أكد هذه الحقيقة حين كشف أن الإمارات استوردت نحو 29 طناً من الذهب السوداني خلال عام 2024 وحده ، و17 طناً في عام 2023، بالإضافة إلى 18 طناً من الذهب القادم من تشاد، وهي المنطقة التي تستغلها ميليشيات حميدتي لتهريب الذهب السوداني. هذا الارتباط بين التهريب والتمويل يوضح كيف تمول الحرب نفسها عبر موارد البلاد المنهوبة.
اليوم باتت الصورة واضحة أمام العالم بأسره : ما يحدث في السودان ليس نزاعاً داخلياً بين جيش ومتمردين ، بل حرب وكالة تتقاطع فيها مصالح دول تسعى إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية في قلب القارة الإفريقية.
تصريحات قرقاش ليست سوى محاولة متأخرة لتجميل الموقف، بعد أن تكشف الدور الحقيقي للإمارات في تمويل وتسليح طرفٍ ارتكب فظائع بحق المدنيين في الفاشر وغيرها من المدن السودانية.
وهكذا ، تتضح المعادلة القاسية : دماء السودانيين أصبحت وقوداً لصراعٍ دولي على النفوذ والثروة ، والبلاد تُدفع ثمناً باهظاً لطموحات قوى خارجية ترى في الخراب وسيلة للسيطرة. ومع ذلك ، يبقى الأمل في أن تخرج الحقيقة كاملة للعلن ، وأن يدرك العالم أن ما يحدث في السودان ليس سوى مرآة عاكسة لصراعاتٍ أكبر تُدار من بعيد بأيدٍ كثيرة ، لكن الضحية واحدة ـ الشعب السوداني.




