مقالات

السودان .. بوابة النهايات بين نبوءات التوراة ومخططات الجغرافيا الجديدة

✍️ يوحنا عزمي

من قلب القارة الإفريقية ، وعلى ضفاف النيل الذي كان يوماً رمزاً للحياة ، يقف السودان الآن على حافة مصير غامض.

حرب أهلية مستعرة بين الجيش وقوات الدعم السريع ، ودماء تُراق على أرضٍ أنهكتها الأزمات والانقسامات، بينما شبح التقسيم يخيم فوق الخرائط كظلٍ ثقيل يعيد للأذهان سيناريوهات رسمتها عقول في غرف مغلقة منذ عقود طويلة.

كأن التاريخ يعيد نفسه ، لكن بملامح أكثر قسوة ووجعاً وكأن أرض كوش القديمة ـ التي تغنت بها الأساطير التوراتية ـ تشتعل اليوم من جديد لتُعيد طرح السؤال الأزلي :

هل ما يحدث على هذه الأرض قدر مكتوب في النبوءات أم مخطط يُنفذ بدمٍ بارد تحت غطاء الدين والسياسة؟

 حرب الأخوة .. حين تحترق كوش من الداخل

الحرب الدائرة في السودان ليست مجرد صراعٍ على السلطة بين جنرالاتٍ متناحرين ، بل هي حلقة في سلسلة طويلة من التفتيت بدأت منذ انفصال الجنوب عام 2011، حين تحقق أول مشهد من مشروع تقسيم السودان، بدعمٍ معلن من قوى غربية وإسرائيلية.

فمنذ ذلك اليوم ، صار السودان هدفاً مفتوحاً للعبث الجيوسياسي ، ليس فقط لثرواته الهائلة من الذهب والمياه والنفط ، بل لأنه البوابة الجنوبية لمصر ، ومفتاح التوازن في القرن الإفريقي.

والآن ، ومع سقوط الفاشر بيد قوات الدعم السريع ، ومع إنهيار مؤسسات الدولة في الغرب ، يتسارع تنفيذ ما أُطلق عليه في الوثائق الغربية “خطة السودان الثلاثي” :

شرق السودان : كيان بحري على البحر الأحمر.

غرب السودان (دارفور) منطقة مستقلة ذات طابع قبلي.

الوسط النيلي (الخرطوم وشمالها) : المركز الإداري والسياسي القديم.

بهذا الشكل يتحول السودان تدريجياً إلى ثلاث دويلات ضعيفة ، يسهل السيطرة عليها اقتصادياً وعسكرياً.

لكن اللافت أن هذه الرؤية ليست جديدة ؛ فالنصوص التوراتية والتلمودية القديمة تحدثت عن أرض تُدعى كوش ـ هي نفسها السودان الحديث ـ كموضع تحولات كونية في آخر الزمان.

كوش في النصوص المقدسة .. أرض الماء والنبوءة

في التوراة ، ذُكرت كوش أكثر من ثلاثين مرة ، باعتبارها أرضاً مباركة بالمياه وغنية بالثروات.

ومن أبرز النصوص التي تتقاطع مع الجغرافيا السودانية :

سفر التكوين 2 :13

“واسم النهر الثاني جيحون ، وهو المحيط بجميع أرض كوش.”

وهو وصف ينطبق جغرافياً على النيل ، باعتباره الإمتداد الطبيعي لجيحون في التقاليد العبرية.

أما في سفر إشعيا 18 :1-2 فيقول النص:

“ويل لأرض الأجنحة التي في عبر أنهار كوش ، التي تُرسل رسلاً في البحر ، في سفنٍ من البردي على وجه المياه ، إلى أمةٍ طويلة القامة، ملساء الجلد، تُخشى من القريب والبعيد.”

وقد فسر الحاخامات هذا النص على أنه نبوءة عن شعب “كوش” الذي سيعود للظهور في أيام النهاية ، وأن حركته ستسبق مجيء المسيح ـ المخلص المنتظر في العقيدة اليهودية.

وفي سفر صفنيا 3:10 نقرأ :

“من عبر أنهار كوش ، المتضرعون إلي ، بنو المشتتين يقدمون تقدمة.”

وهنا تُقدم كوش كرمزٍ لأمةٍ مضطهدة تعود إلى الإيمان والنور في آخر الزمان ، وكأن الاضطرابات التي تعصف بها اليوم ليست إلا علامة على التحول الكبير الذي تنبأت به النصوص القديمة.

 التلمود وزمن الفوضى قبل المسيح

في التلمود البابلي (سنهدرين 97أ – 98ب) ، نجد وصفاً مدهشاً للأحداث التي تسبق مجيء “”ابن داود” :

“قبل مجيء ابن داود ، تشتعل الحروب في أربع زوايا الأرض ، وتُفتح أبواب الجنوب ، ويخرج منها قوم سود البشرة كالفحم ، يسيرون كالعاصفة نحو الشمال.”

وفي تفسيرات الراباي إسحاق بن أبراهام (القرن الثالث عشر)، وُصفت “أبواب الجنوب” بأنها بلاد كوش، أي السودان والحبشة ، وأن زحفها نحو الشمال ـ أي مصر وفلسطين ـ سيكون إشارة إلى اقتراب “نهاية الزمان”.

وفي كتاب الزوهار ، أحد أهم النصوص الصوفية في الفكر الكابالي ، ورد قول لافت :

“حين تهتز أرض كوش وتضطرب أنهارها ، يُفتح الشرق وتُحكم قبضة الغرب على الجنوب ، وتُعاد الأرض إلى أصحاب العهد القديم.”

ويرى بعض المفكرين الصهاينة المعاصرين ـ مثل “آفي ليبمان” و”رافائيل بيم” – أن المقصود هنا هو عودة النفوذ اليهودي إلى الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات ، وهي الفكرة التي تجسدت لاحقاً في شعار “إسرائيل الكبرى”

 السودان .. من النبوءة إلى الجغرافيا السياسية

على أرض الواقع ، تبدو الصورة أكثر وضوحاً :

دارفور غارقة في الفوضى تحت سلطة مليشيا الدعم السريع.

الخرطوم ساحة حرب مفتوحة بين الجيش والمليشيا.

الشرق (بورتسودان) تحول إلى مقر للحكومة المؤقتة وبوابة النفوذ البحري المطلة على البحر الأحمر.

ومع هذا الانقسام ، يتهاوى مفهوم الدولة المركزية ، ويتكاثر اللاعبون الدوليون في الميدان :

إسرائيل ، أمريكا ، روسيا ، تركيا ، والإمارات ، كل له موطئ قدم ومصلحة.

لكن الأخطر أن هذا المشهد لا يتوقف عند حدود السودان، فكل اضطراب في الجنوب يُحدث ارتداداً مباشراً نحو مصر، التي تمثل الحزام الأمني الطبيعي لشمال إفريقيا ، والمفتاح التاريخي لنهر النيل.

السلاح ينتشر ، والقبائل تتنازع ، والحدود الجنوبية تقترب من لحظة الانفجار الصامت.

 مصادفة أم إعداد لمشهد النهاية؟

من يتأمل خريطة الشرق الأوسط اليوم يدرك أن ما يجري في السودان.، ليبيا ، اليمن ، وسوريا ليس معزولًا عن بعضه، بل يبدو كخيوط شبكة واحدة تُحاك لإعادة رسم المنطقة وفق “الفوضى الخلاقة” التي تنبأت بها دوائر الفكر الأمريكي قبل عقود.

وفي ظل هذه الفوضى ، يعود الخطاب الديني القديم إلى الواجهة :

الأرض الموعودة لم تعد مجرد أسطورة ، بل مشروع سياسي يُنفذ بخطوات محسوبة ، يبدأ بتفكيك الدول الكبرى المحيطة بإسرائيل ـ العراق ، سوريا ، السودان ، ومصر ـ تمهيدًا لإعادة تشكيل الخريطة وفق الرؤية التوراتية.

 مصر .. مفتاح كوش وآخر الحصون

في النصوص القديمة ، تظهر مصر دائماً بوصفها المرآة المقابلة لكوش.

يقول سفر حزقيال 30:4-6 :

وتتزعزع أرض مصر ، ويُقتل كبوشها ، وتُسبى ثروتها ، وتنهار كوش معها.”

فالعلاقة بين مصر وكوش في الفكر التوراتي هي علاقة توأمٍ جغرافي ومصيري : سقوط إحداهما يعني اهتزاز الأخرى.

لكن النص نفسه يُلمح إلى دورٍ مختلف في آخر الزمان ، إذ تُوصف مصر بأنها “مدينة الملجأ”، أي الملاذ الأخير الذي تتجه إليه الأمم حين تشتد الفوضى.

وهو ما يتقاطع مع الواقع الراهن ، حيث تبقى مصر ـ رغم العواصف المحيطة ـ مركز الإستقرار النسبي في محيطٍ مضطرب.

 بين النبوءة والواقع .. من يملك النهاية؟

قد يظن البعض أن الربط بين النصوص المقدسة والسياسة المعاصرة نوع من المبالغة، لكن الحقيقة أن الفكر الصهيوني الديني يتعامل مع التوراة والتلمود كـ وثائق جيوسياسية لا مجرد نصوص روحية.

وما نراه اليوم من حروبٍ وتفتيتٍ وانقلابات ليس إلا نتيجة مباشرة لعقيدةٍ تُقدس الفوضى المؤقتة من أجل “الخلاص النهائي”.

ومع ذلك ، يبقى التاريخ شاهداً على أن الشعوب الواعية قادرة على إفشال أعتى المخططات ، وأن الوعي القومي  هو السلاح الأخير في معركة البقاء.

ما يحدث في السودان ليس صراعاً داخلياً فحسب، بل فصل جديد من معركة هوية النيل ، التي تمتد جذورها من أسفار العهد القديم إلى خرائط الشرق الأوسط الحديثة.

وربما ما كُتب عن “كوش” و”مصر” لم يكن نبوءة قدر ما كان تحذيراً :

أن سقوط الجنوب يعني اهتزاز الشمال ، وأن بقاء مصر قوية هو ما يؤخر ساعة النهاية.

ويبقى السؤال المعلق في الأفق :

هل نحن أمام نبوءة تتحقق .. أم أمام من يصنع النبوءة بدمٍ وأرض وإنسان؟

التاريخ وحده سيُجيب ، لكن المؤكد أن مصر كانت دائماً البداية .. وقد تكون أيضاً النهاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!