✍️ يوحنا عزمي
تحولت الفاشر ، عاصمة شمال دارفور ، خلال أيام قليلة إلى مشهد لا يصدقه العقل ؛ صور أقمار صناعية وتحليلات مختبرية تحدثت عن بقع حمراء ضخمة على الأرض تشبه «برك دم» وأكوام من الجثث مكدسة فوق بعضها ، ما يجعل ما حدث هناك أقرب إلى مذبحة منه إلى معركة.

هذه النتائج لم تصدر من جهة مجهولة ، بل من مختبر أبحاث بجامعة Yale اختزل في تقريره الأخير لقطات فضائية وتحليلات تؤكد وقوع أحداث قتل جماعي مُنظم في مناطق محددة من المدينة ، وهو ما يضع الفاشر الآن في خانة حالات الطوارئ الأمنية والإنسانية.
الصور التي تروى بالبيكسل ما تعجز عنه الكلمات أظهرت بقعاً واسعة بلون أحمر غامق على باطن الأرض ، وتجمعات متناسقة من أجسام تبدو كأنها أكوام جثث، بعضها مرصوص بجوار عربات تابعة لميليشيات مسلحة وسواتر ترابية تحيط بالمدينة. التحليل العلمي للصورة لم يكتفِ بوصف المشهد، بل وضع السيناريو الأكثر قرباً للصدق : عمليات إعدام ميدانية جماعية وتخلص منظم من الضحايا في نطاقات جغرافية متقاربة تؤشر إلى نمط من العنف الانتقائي والمقصود.
وليس التقاط الأقمار وحده ما يثير الرعب ؛ على الأرض وصلت روايات موثقة ومقاطع فيديو تترجم الوحشية إلى أصوات وصور. حاكم ولاية دارفور ، مني أركو مناوي، نشر معلومات مفجعة تتحدث عن مئات المرضى والمصابين الذين قُتلوا داخل مستشفى ـ ادعاء أثار صدمة ونداءات دولية لفتح تحقيق فوري ، إذ أن استهداف مستشفيات ومرضى عاجزين يشير إلى تجاوز كل قواعد الحروب التقليدية إلى جرائم حرب محتملة.
المنهجية التي اتبعتها قوات الدعم السريع كما رصدها تحقيق المصادر الميدانية والإعلامية تبدو منهجاً منظّماً :
إغلاق مداخل المدينة ، بناء سواتر ترابية تحول الفاشر إلى «حوض قتل» لا مخرج منه ، ثم جولات تمشي «من باب إلى باب» تقتحم المنازل ، تصفي ساكنيها ، وتترك وراءها جثثاً تُرمى في العراء. الناجون والشهود الذين وصلتهم حكايات الرعب يحكون عن عمليات منهجية لا تميز بين شيخ وامرأة وطفل ، وعن أسر تُسحل ذُكرى وجودها بعد أن فقدت كل أفرادها.
من الصعب فصل ما يحدث عن سياق أوسع: الدعم المتبادل والتمويلات ، والتحالفات البينية ، والروابط العابرة للحدود جعلت من بعض الوحدات المسلحة قوة ليست محلية فقط.
تقارير عدة تشير إلى أن عناصر من جنسيات مختلفة انضموا إلى صفوف تلك التشكيلات ، وأن هناك مصالح مادية ـ لا سيما ما يتعلق بمناجم وموارد ـ تلعب دورًا في تحفيز أعمال العنف على نحو يهدف إلى إزاحة مجموعات سكانية كاملة من أرضها. هذا البُعد الاقتصادي والسياسي يضيف طبقة من الاستراتيجية إلى المشهد الدامي ويزيد من المخاطر على بقية مدن وبلدات السودان المجاورة.
على مستوى الأسماء ، تبرز على الفيديوهات والشهادات أوجه قيادية ينسب إليها تنفيذ عمليات القتل والبروباغندا الفظة ؛ تقارير وتحقيقات ربطت بين بعض مقاطع الفيديو وقادة ميدانيين معروفين ، من بينهم عناصر وردت أسماؤهم في تدوينات ومنشورات تحلل أدلة مفتوحة المصدر ، وبعضهم صور نفسه يفخر بأرقام قتل هائلة ـ سلوك يشي برطانة وحشية ومحاولة للافتخار بعمليات إبادة تبدو مقصودة ومعلنة. هذه المشاهد لم تخلُ من دعوات للمساءلة الدولية ، وإدراج أسماء مرتبطة بهذه الجرائم ضمن قوائم المطلوبين أمام العدالة.
والأسئلة التي تفرض نفسها الآن ليست تقنية فقط ، بل أخلاقية وسياسية : كيف يمكن أن يترك العالم مدينة بهذا الحجم تواجه إبادة؟
وما هو الثمن الإنساني الذي ستدفعه دارفور والسودان إذا واصل الفاعلون المسلحون هذا النهج بلا رادع دولي فعال؟
مع كل صورة فضائية وكل شريط فيديو وكل شهادة تُنجز، تضاعف مسؤولية المجتمع الدولي والإقليمي في التحرك الفوري للحيلولة دون مزيد من المجازر ، وتأمين ممرات إنسانية ، وتوثيق الأدلة للمتابعة القانونية لاحقاً.
أختم بأن ما وصلني من مصادر وصور وتقارير يجب أن يوقظ ضمير كل متابع للحال السودانية : الفاشر اليوم ليست مجرد مدينةٍ سقطت ، بل مشهد يحكي عن احتمالية نشوء فصل قاتم من تاريخ الإبادة إذا لم تتدخل آليات الحماية وحقوق الإنسان بحسم. .




