آية عبده أحمد
لا يمكن لشيء أن يصوّر رهبة ما مررتُ به، حتى الكلمات تتوارى خجلًا حين أبدأ بتوثيق الأحداث، لقد كان الواقع أمرّ من طعم الحنظل، وتعايشتُ معه رغمًا عني، أنا آخر شاهدٍ على ملامح الناس هناك والشوارع والمباني، لا أعلم هل أقول نجوت أم لا؟
بقلبٍ مهترئٍ أعيش ما تبقى لي، بعد أن مضت الأيام بثقلها كله من فوقه، لقد كان ذات يوم ينبض بالحياة، واليوم تشوّه بالكامل، وما زال يحاول ألا يتوقف رغم أنه داخل جسد جثة.
صوتُ الأنين يعلو مجددًا، فأصرخ بملء فمي:
هيا لنزيل الأنقاض، هناك صوت طفل تحتها، مهلًا يبدو أن معه أمه…
فأستيقظ لأجد الحلم نفسه يتكرر، دون أن أعلم سرّ ذلك الأنين في الساعة الثانية صباحًا كل ليلة.
يذكرني الليل بالأيام الطويلة التي قُطع في التيار الكهربائي، حتى أننا كثيرًا ما كنا ننسى وجوده في الحياة، وحين أشاهد السراب تأخذني الذكريات للأيام التي كان لا وجود للماء، لقد مرّت بلُطف الله ورحمته، ولكن عقلي مرهقٌ للغاية؛ بسبب ما عانيته هناك، أقول هناك رغم أني في نفس المكان، لكنه تغير وأصبح أفضل.
ذات يوم قرأت: “الظلم فانٍ لا محالة”، أجل يفنى، ولكن كيف أنسى؟
كيف أتناسى أو أتعافى؟
هل هناك طريقة لتجعلني أمرّ على طريق الذكريات دون أن تصيبني أحد الألغام ككل مرة؟
ولماذا أنا؟
لماذا أنا فقط الناجي الوحيد؟
أنا آخر الذين شهدوا على الظلم، وها أنا أشهد على العدالة، أشهد أن الذين فاضت أرواحهم بسبب الجوع والعطش والتعذيب والحسرة والقهر والتعب، لقد أُخذ لهم حقهم، ليس بفعل البشر، فالله وحده العادل الذي لا يظلم أحدًا.
تسألني:
من أين نجوت؟
أجيبُك:
من تلك التي يزيّنها الياسمين..
أو ربما أرض السُّمُر والنيل..
عفوًا أقصد أرض الزيتون..
مهلًا إنها شجرة الأرز..
أذكر في حقبة ما لقد كان “اليمن السعيد” سعيدًا..
– من أنت؟
وما هويتك؟
= آخر الناجين من زئير المدافع، وأمطار الرصاص، وأنين الموتى، والمجاعة، والحسرة التي تشيب العقول، والتعب الذي بوسعه أن يهدم العالم بأكمله، والحزن الذي عجزتُ أن أصوم عنه، وأرض المعركة التي لم تكن أرضًا كما هو معهود، بل أُقيمت علينا نحن الشعب.
– أيّ شعبٍ أنتم؟
= بما أنك جمعتنا تحت ضمير واحد “أنتم”، فنحنُ جميعنا واحد، والسلام…
