بقلم/ انتصار عمار
منذ قديم الأزل، وعبر مختلف العصور، نجد أن للورد طبيعة خاصة به، تجعل له طابعًا مميزًا.
فهو رمز الرقة، والعذوبة، والرومانسية، والصفاء، والنقاء،
وهو ترجمان اللسان حينما يعجز عن التعبير عن مكنونات المشاعر.
فالورد هو لغة القلوب، وحديث العين، يمتاز بطبيعة صامتة، إلا أنها تنبض بروح الحياة.
فعندما تستنشق عبيره، تشعر وكأنك سافرت إلى عالمه، أبحرت في خلايا أوراقه،
جلست وربوع ساقه.
أسرار دفينة على لسان الورد يرويها في صمت، فللورد لغة خاصة به، لا يفهمها إلا من يجيد لغته، ويبحر في عالمه، ولديه مَلَكة الحس.
والورد لصيق الروح، يشبه تفاصيلها، ورقة ملامحها، وهو رسول المحبين، وساعي بريد الهوى الذي يشبه الحمام الزاجل، “حمام المراسلات”
والذي يطوي العديد من الرسائل في جعبته، ويطير بها إلى مكان المرسل إليه، تمامًا مثلما يسافر الورد عبر نسيم الهوى.
وهو يمتطي جواد العاطفة والحس، طائرًا حيث أنين الشوق، ووطن الحنين.
حاملًا في طياته، رسائل الحب واللهفة والشوق، والغيرة، ويطرق بها قلب الحبيب.
فتجيبه قُبلة الحياة التي تطبع على خد الوردة، حينما تداعب قطرات الندى أوراقها بالصباح.
راسمةً أمل جديد، يُحيك من الحياة أثوابًا، ترتدي جلباب السعادة، مزخرفًا بألوان ونقوش البهجة.
وفي أرجاء البستان، وردة غاية في الجمال والرقة، تأسر القلوب لجمالها الأخاذ.
تشع جمالًا، وتزداد بهاءً، حينما تسكب الشمس ضوءها في راحتيها، وتعانق أشعتها لحظ عينيها.
تلك الوردة كانت تحيا داخل ذلك البستان، كأي وردة، لكنها لم تعي قدر جمالها إلا حينما حييت بين صفحات الكتاب.
ونمت بين تلك الصفحات، عانقت صيفًا سطعت شمسه بين سطوره، ودونت ذكريات ربيعٍ حل عبر أزمنةٍ تتوق لنسماته.
وكأن تلك الوردة جسدت مسلسل الفصول الأربعة كاملًا، حينما عبرت من فصل إلى فصل.
تاركةً خلف أوراقها قلب يحن، ويتوق لمثل تلك الليلة الممطرة التي غاب فيها ضوءُ القمر إلا في عينيك.
وكلماتك التي تلتف حول تلك الوردة الرقراقة، لتسدل عليها معطفًا، نسجته أحرف هواك.
وجنبات قلبك التي كانت مصدة لها من المطر، ولسان حالها يقول: ألا ليت المطر يدوم، ويدوم!
فأنا لا أخشى الغرق تحت المطر، وإنما أشتاق لدفء حنانك أن يغرقني في أبحره.
وكأنها قصة عشق تجمع بين الوردة، والكتاب، وأحرف هوىً نُقشت على الجدران. تعزف قيثارة روح لقيت موطنها بعد اغتراب.
وكانت الوردة تتنقل بين صفحات ذلك الكتاب، وتلهو وتمرح بين سطر وآخر، إلا أنها كانت تخرج في نزهة بالصباح، وتعود وضوء القمر ليلًا.
وكأن الكتاب بمثابة بيت، وملاذ لتلك الوردة، التي كانت تتنفس أحرف كلماته.
لم تكن هذه الوردة تُروى بالماء، ولم يكن الماء وحده ليُحيها، فلقد كانت تنمو بين الكلمات، بين الأسطر، في الأحرف، وكأنها لها سقاء.
لم تكن تدرك نور الشمس إلا بين صفحاته، حينما تشرق على مدينة الأحرف، ويخترق سنا ضوئها شارع الكلمات.
فتكتب عنوانًا ليوم جديد، تعانق فيه الشمس بداية ذلك الميلاد.
كانت تشهد حكايات النجوم كل ليلة في دار السماء، وكانت تغزل أبيات هواك قصيدًا، يترنح في معبد هواك.
تنثر عبيره في هالات السماء، وتسافر بين صفحات الكتاب، وتعتلي أسطره، كي ترتقي درج قلبه.
تُرى من يحيا بداخل الآخر؟ أهو الكتاب الذي تحيه أنفاس الوردة؟ أم أن الوردة هي التي تحيا بين شهيق، وزفير الكتاب؟
ولا يجيد لغة الورد إلا من يمتلك نبضًا مثل روح الورد، فالورد إما أن يكون بداية قصة، أو نهايتها.
ولا تظن أن الورد يجرح، كلا، بل إن يد الورد لا تجرح إلا اعترض طريقها، و أذاها، فحقًا للورد شوك.
ولكن لا يؤلم الشوك إلا من اقترب منه، وقام بجُرحه، وخدش سره.
ولقد قال “نزار قباني” عن الورد: لا تلمس الورد، فالأشواك تملؤه، وارفق بكفك إن الورد مغرور، له المعاذير في إدماء لامسه، والورد حتى وإن أدماك، معذور.
ويمتاز الورد بجمال عطره، ولا يزول ذلك العطر أو يفنى بزوال الورد، فعطر الورد باق، ولو داهسته أقدام، سيظل الورد، وردًا، وشذا عبيره يفوح ليوقظ من بالناس نيام.