ابداعات

مطلوب: شمس جديدة 1

رحمة خميس 

 

 

كان الليل قد بلغ ذروته، والظلام يحيط بكل شيء كما لو أنه لا نهاية له. استفاقت فجأة على صوت الهاتف، الصوت الذي يبدو وكأنه صرخة في صمت عالمها، ينذرها بأن شيئًا ما يتغير، وأن يومًا جديدًا لم يعد بعيدًا. التفتت نحو الساعة، والوقت مازال في منتصف الليل، لكن قلبها ينبئها بشيء آخر. كانت الساعة الثالثة فجراً، ومع ذلك، كان الوقت متوقفًا في مكانٍ آخر داخلها، وكأن عقارب الساعة تتلاعب بها.

 

نهضت بسرعة، وبخطوات غير متوازنة، توجهت نحو النافذة، محاولة استنشاق هواء بارد، لكنها لم تستطع أن تتجاهل الإحساس الثقيل الذي يضغط على صدرها. وبينما كانت تهم بالرجوع إلى داخل الغرفة، فُتح الباب فجأة، ودخل أخوها يلهث، وعيناه محملتان بالقلق. “هل سمعتي؟” كان سؤاله عميقًا كأنه يحمل نبأً سيغير كل شيء. وبلا مقدمات، قال: “الكارثة بدأت.”

 

نظرت إليه في دهشة من أمرها قائلة: ما الذي يحدث؟ شدّ على يدها وأخذها إلى الخارج حيث التلفاز الذي يُعلن قدوم الكارثة.

 

“إليكم هذا النبأ العاجل| الشمس تُعلن استقالتها رسميًا وتغادر موقعها دون سابق إنذار!

 

في سابقة كونية هي الأولى من نوعها، أعلنت الشمس منذ قليل استقالتها من منصبها كمصدر رئيسي للضوء والحرارة على كوكب الأرض. وفي بيان مقتضب، صرّحت الشمس: “لقد تحملت ما يكفي! لن أستمر في إنارة كوكب يعج بالفوضى والتلوث والدراما التافهة. أحتاج إلى راحة، ولن أعود قبل تحقيق مطالبي!”

 

وبحسب مصادر فضائية مطّلعة، فقد شوهدت الشمس وهي تغادر موقعها متجهة إلى مجرة مجهولة، وسط حالة من الذهول والذعر بين العلماء، الذين أكدوا أن هذا القرار قد يؤدي إلى “ليلة أبدية” لم يشهدها الكوكب من قبل.

 

من جهتها، أعلنت وكالات الفضاء حالة الطوارئ القصوى، بينما حاول الملياردير إيلون ماسك التواصل مع الشمس لإقناعها بالعدول عن قرارها، إلا أنها لم ترد سوى بجملة واحدة: “ابحثوا عن مصدر آخر للدفء.. لقد انتهى وقتي معكم!”

 

هذا وسنوافيكم بالمستجدات حال توفرها”.

 

صمت الأخوين في حالة من الذهول، حتى سمعا صوتٌ جهور من خارج المنزل. خرجا من المنزل وسط دهشتهم، حتى وجدا تجمهر المئات من المواطنين يهتفون “لا لاستقالة الشمس” “نحن نحب الشمس” “العودة للشمس”

 

وقفت تُحدّق في الشاشة بعيون مذهولة، تحاول استيعاب الكارثة التي ضربت كوكبها في لحظة غير متوقعة. لكن هاتفها لم يُمهلها، إذ اهتزّ في يدها مُعلنًا عن مكالمة من رئيسها في العمل.

 

– “ألو؟”

 

جاءها صوته متوترًا: “تعالي فورًا للهيئة، الوضع خارج عن السيطرة!”

 

أغلقت الهاتف بسرعة، التفتت نحو أخيها الذي ما زال يهتف بحماس وسط الجموع. هزّت رأسها في يأس، ثم اندفعت نحو سيارتها لتنطلق إلى مقر هيئة الأرصاد الجوية، وسط شوارع يكسوها الذعر والتخبط.

 

عند وصولها إلى المبنى، وجدته في حالة من الفوضى لم تشهدها من قبل. العلماء يصرخون، الموظفون يركضون، وأجهزة الكمبيوتر تُطلق إنذارات مُقلقة. جلست إلى مكتبها وهي تحاول استيعاب تقارير الأقمار الصناعية، لكن كل البيانات تؤكد نفس الحقيقة الصادمة: الشمس غادرت نظامنا الشمسي تمامًا.

 

دلف رئيسها إلى الغرفة بخطوات عصبية، وقال: “نحن أمام كارثة لا تُصدق… ولا نفهم كيف نحلها!”

 

– “هل حاولتم التواصل مع الشمس؟”

 

نظر إليها بوجه مُتجهّم: “انتي فاكرة انها موظف حكومي هنستدعيه نناقش معاه قرار الإقالة!”

 

لم تتمالك نفسها من الضحك، رغم الوضع الحرج. لكنها سرعان ما استعادت جديتها وسألت: “حسنًا، هل لدينا أي خطة بديلة؟”

 

قبل أن يجيبها، اخترقت أصوات المراسلين أجواء القاعة، حيث كانت القنوات الفضائية تنقل الأخبار العاجلة:

 

“إيلون ماسك يُعلن تدشين مشروع ’الشمس الصناعية‘ في محاولة لإنقاذ الأرض!”

 

نظرت إلى الشاشة حيث ظهر إيلون ماسك، واقفًا في مؤتمر صحفي وهو يتحدث بثقة مصطنعة:

 

– “لا داعي للذعر، أصدقائي… نحن نعيش في عصر التكنولوجيا! يمكننا ببساطة صنع شمس جديدة! فقط أعطوني بعض الوقت، ومليارات الدولارات، وسأعيد النور إلى الأرض! من المهم الآن أن ترتدوا ملابس دافئة حتى لا تشعروا بالبرد القارس”.

 

لكن قبل أن يُكمل جملته، انقطعت الإشارة فجأة، وحلّ صمت ثقيل… ثم ظهرت صورة غامضة على الشاشة.

 

كانت الشمس نفسها!

 

بوجه مشعّ غاضب، قالت بصوت جليل:

 

– “إيلون… عزيزي، سيبك من العبط اللي بتقوله دا! اخترع براحتك عربيات كهربائية وصواريخ من كالون الحمام زي مانت عايز، لكن مش هتقدر تعمل شمس صناعية من طبق الدش اللي فوق سطح بيتكم! ارحموني شوية! عايشة حياتي احترق من أجلكم يا رعاع! بصراحة بقى انا محتاجة لراحة هريح شوية في المجرة اللي جنبكم وبفكر كدا استقر في بيتي واتجوز. سيبوني شوية لحد ما نزعة الاسترونج وومن تطلع عليا تاني”.

 

ارتفع صراخ الناس في الشوارع، البعض مؤيد لفكرة الشمس الجديدة، والبعض الآخر يطالب الشمس الأصلية بالتفاوض، لكن الشمس أنهت البث فجأة، تاركة الجميع في حالة من الحيرة والقلق.

 

في غرفة الأرصاد، نظرت الفتاة إلى رئيسها وهي تحاول كتم ضحكتها مما قالته الشمس حتى قال الرئيس:

 

– “هل حقًا… يمكن أن يكون الحل في التفاوض مع الشمس نفسها؟” صمت الرجل للحظة، ثم قالت الفتاة بضحك: “ما قالت استنوا عليا لحد ما ارجع سترونج وومن تاني!”

 

نظر إليها الرئيس بعينين جاحظتين حتى كتمت ضحكها ثم قال بزفر: – “ابحثوا عن أقرب نجم إلى المجرة المجاورة. ربما يمكننا عقد قمة كونية!”

 

وبعد عدة مفاوضات مع الشمس وإرسال النجم إلى المجرة العديد والعديد من المرات، جاء تقرير صادم جديد:

 

“الشمس تُعلن شروطها للعودة!”

 

ظهر بيان رسمي صادر عنها، تقول فيه:

 

“صدعتوا دماغي بالعودة، الواحد مش عارف يرتاح من صياحكم ليل نهار، الله يعين القمر عليكم. بيكش ويبقى هلال بسببكم من قلة النوم”.

 

“بصو، انا هرجع بس هنزل يومين في الاسبوع عشان بيتي وزوجي واولادي. واخد إجازة سنوية وتأمين صحي مدى الحياة، وضمانات من ايلون ماسك أنه ميعملش شمس صناعية من طبق الدش اللي فوق سطوح بيتهم، اعمله من الكورة الكفر اللي لعبت بيها في جنوب افريقيا”.

 

ضحكت الفتاة وهي تُمسك برأسها قائلة:

 

– “الشمس فاكرة نفسها موظفة في مكتب الخدمة الاجتماعية تبع جامعة عين شمس، والله دمها خفيف. ادوها إجازة صعبت عليا”. وانفجرت ضاحكة.

 

نظر إليها من بالمكان حتى قال الرئيس: “اتركوها تضحك، تريد أن تفعل مثلما فعلت الشمس، لكنها غير قادرة على ذلك”. انفجرت ضاحكة حتى سال دمعها وقالت: “لقد قمت بتحريض الشمس، لا لا، لا أريد الكذب أكتر من كدا أنا الشمس أصلا”.

 

نظر إليها الجميع بذهول… ثم بدأ ضوء خفيف يشعّ من عينيها. في لحظة صمت مطبق، قال رئيسها وهو يبتلع ريقه: – إنتي… بجد الشمس؟ ضحكت وهي تمسح دموعها، ثم وقفت وسط المكتب ورفعت يديها عاليًا… وفي لحظة خاطفة، انبعث نور ساطع ملأ الغرفة. – آه يا بشر… استريحتوا شوية؟ يلا قوموا اشتغلوا، مش هرجع لوحدي!”

 

في مكتب الشمس، الدور الأخير في مبنى “هيئة الأرصاد الجوية”، أوراق متطايرة، لوحة مكتوب عليها: “ممنوع الاحتراق داخل المكتب”

 

الشمس وسط مكتبها، ترتدي نظارة القراءة من نيران خفيفة، لتراجع تقارير كونية عن كوكب الأرض ودرجة حرارته المتزايدة، وتتحدث مع نفسها قائلة:

 

– “مخلوقين بيحبوا الدراما… يوم برد يشتكوا، يوم حر يشتموني… طب ما تروحوا لنيبتون وتشوفوا البرد اللي بجد”

 

تحت نظرات زملاء العمل إليها بترقب وحذر إليها، ونظرة فاحصة للمدير بالعمل الذي ينظر إليها بخوف شديد. وفجأة…

 

“إنذاااار كوووني!” “شمس مجرة درب التبانة 097… تم رصد اضطراب في مهامك الكونية. عليكِ التوجه فورًا إلى محكمة مجرة أندروميدا العليا. ستقوم شمس بديلة بتولي مهامك لحين صدور الحكم النهائي.”

 

المكتب كله بيقف وسط حالة من الذهول.

 

قالت زميلة لها بهمس مع أخرى: “أنا كنت حاسة إنها مكتئبة… بس ما كنتش متوقعة يتدخلوا من المجرة!”

 

نظرت إليها الزميلة الأخرى بتعجب قائلة: “أنتِ في صفها ولا اي؟”

 

قالت الزميلة بهمس مرة أخرى: لا، لكنني أحب الشتاء فقط. وضحكت

 

لكن الباب يُفتح، وتدخل الشمس البديلة مصقولة، هادئة، صوتها ناعم، ترتدي بدلة رسمية بها لمعة فضية، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة.

 

نظرت إليها الشمس 097 بتجهم وقالت: كأنها لسه جاية من مقابلة عمل في نبتون.

 

واردفت وهي تلوح بيدها: – “يا مرحب بالنجمة الطموحة! دي بديلتي يا جماعة… مش قادرة أقول اسمها أصلاً، بس خلينا نناديها ‘شموسة ع الهوا’ جاية تاخد مكاني مؤقتًا. هتشتغل من 6 صباحًا لـ6 مساءً، ممنوع التفتيش على المشاعر، والممنوع منعًا باتًا إنها تحب الأرض أكتر مني.”

 

الشمس البديلة (بابتسامة حزينة): – “أنا مش جاية آخد مكانك، أنا جاية أحافظ عليه لحد ما ترجعي… بس يمكن، وأقول يمكن، أبقى أفضل منك!”

 

الشمس 097 بضحك: – “آه، ثقة زايدة… دي أول أعراض الانفجار. خدي التقارير، وخدي شاحن الطاقة الشمسية بتاعي، وماتنسيش تسقي الزهرة… الكوكب يعني، مش النبات.”

 

الشمس البديلة (بهدوء غريب): – “عارفة إنهم اشتاقوا لنور أهدى. يمكن حرارتك بقت مؤلمة… مش من كتر الشغل، من كتر التعب.”

 

الشمس 097 وهي تقف وتسحب عباءتها النارية: “ماشي… بس لو اتحكم عليا بالإعدام الكوني، افتكري تسقي الزهرة بتاعتي، وبلاش الشاي كل ما تتعبي تشربيه، هتنفجري زيي كدا من السخونة.

 

التفت إليها وقالت وهي تخرج:

 

– “ما تفرحيش اوي… مفيش حد بينسى الشمس الأولى. حتى غروبي، الناس هتصوره.”

 

الباب يُغلق. ظلام خفيف. ثم يظهر على الشاشة:

 

“إلى أندروميدا… للمحاكمة.”

 

قالت بحدة: جاية خلاص، بس مش قبل ما اشرب كوباية الشاي بتاعتي واودع صحباتي.

 

يتبع…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!