ابداعات

فوضى

 

 

بقلم: ضياء علي الدعاس

 

قد يبدو المشهد غارقًا في العشوائية: كتبٌ مبعثرة، دفاتر مفتوحة، وأفكار تتدافع بلا نظام؛ لكن خلف هذه الفوضى يكمن معنى آخر.. أن المعارف لا تسير في خط منتظم، وأن العقل لا يتقدم دائمًا بانتظامٍ مدرسي، بل ينهض وسط الارتباك، حين تتصادم الخواطر وتشتبك المسارات، والفوضى بهذا المعنى ليست نقيض النظام، بل رحمُ الاكتشاف.

 

الفوضى ليست صدفةً عابرة، بل نَفسُ الحياة حين تتخلى عن هندستها المألوفة وتكشف وجهها الحقيقي..وجهٌ متشعب، غير مكتمل، يذكرنا أن الإنسان ليس سطرًا مستقيمًا بل كتابًا متفرع الصفحات… كل ورقة فيه تحمل حكاية، وكل حكاية تفتح أبوابًا على أسئلة جديدة.

 

لكنها ليست حدثًا آنيًا فقط، بل طبقات متراكمة من الزمن؛ ما يخلفه الماضي من بعثرة، وما يثقل الحاضر من ارتباك، وما يلوح به المستقبل من غموض…كأنها الممر الذي لا بد أن نعبره جميعًا، لا لنبلغ النظام وحده، بل لنفهم أن الطريق نفسه هو معنى الوجود.

 

وفي عمقها يكمن سرٌ آخر… أن الروح تتغذى على ما يبدو غير مفهوم؛ فالمريض الذي يلازمه الألم، والمتعب الذي يثقل قلبه الهم، لا يجدان عزاءهما في وضوح المعادلات، بل في تلك الشرارة الخفية التي تولد من العتمة؛ الأمل هناك، لا يُطل من النوافذ المضيئة بل من الشقوق الصغيرة التي لا يراها إلا من أرهقته التجارب.

 

وللفوضى صلة وثيقة بالذاكرة؛ فالذكريات لا تصطف كما نشتهي، بل تنهمر فجأة مثل صور قديمة تتساقط من صندوق منسي،وقد يكون في بعثرتها قسوة، لكنها هي التي تنسج هويتنا، فما يبقى فينا حيًا ليس ما رتبناه بأنفسنا، بل ما ظل متشبثًا فينا رغم محاولات النسيان.

 

الفوضى أيضًا امتحان للإيمان، ليست الإشارة التي تضللنا، بل الطريق الذي يختبر صبرنا على المسير، أن تؤمن وأنت وسط ترتيبٍ متقن أمرٌ هين، لكن أن تتمسك بالإيمان في قلب الفوضى، فذلك هو المعنى الأعمق للثبات… إنها دعوة لأن نرى أن العجز ليس فراغًا، بل مساحة يولد منها رجاء جديد، رجاء قد لا يُثمر اليوم، لكنه يظل حيًا في التربة

 

حتى اللغة التي نظنها أداة للنظام، تحمل فوضاها الخاصة…كلمة واحدة قد تتشعب إلى معانٍ شتى، وجملة قصيرة قد تفتح أبوابًا متناقضة،وهذه الفوضى هي التي تمنح اللغة خصوبتها، وتجعلها قادرة على حمل ما لا تستطيع المعادلات الصارمة أن تحمله،المشاعر، والإيحاء، والدهشة

 

ومن زاوية أخرى، الفوضى ليست فقط في الخارج، بل في داخلنا أيضًا… في الأفكار المتقاطعة، في الأحلام التي تتنازعنا، في الذكريات التي لا تُصفَى بسهولة… ومع ذلك، فإن هذا الداخل الممزق هو ذاته المنجم الذي نستخرج منه أكثر لحظاتنا نقاء؛

فالإبداع، والصدق، والصلابة، لا تنشأ من صفوفٍ مرتبة، بل من عوالم مضطربة تعلمنا أن نصنع من الفوضى لوحة لها شكلها الخاص.

 

إنها أيضًا وجه من وجوه الحرية فالنظام الصارم قد يكون قيدًا، بينما الفوضى تمنحنا فسحة للتجريب، ومساحة للتيه الذي يكشف ذواتنا. 

من لم يتوه لم يعرف نفسه حقًا، ومن لم يتعثر لم يتعلم كيف ينهض

 

إنها أشبه بموسيقى لا تُعزف على إيقاعٍ واحد، بل على ارتباكٍ جميل يمنحها الحياة…وما يبدو بعثرةً للآخرين قد يكون للروح ترتيبًا لا تدركه العيون؛ هكذا يظل الإنسان، مهما تاه، محمولًا على خيطٍ خفي يقوده إلى المعنى..

 

ومنذ أقدم الأساطير، وُصف الكون بأنه خرج من رحم الفوضى؛من العدم وُلد النظام، ومن الارتباك تكونت الأفلاك، وكأن الفوضى هي الأصل الذي لم ينقطع، ما زالت تسري في أعماق الأشياء لتذكرنا أن الخلق فعل دائم لا يكتمل

 

الفوضى إذن ليست لعنة، بل وعدٌ صامت… وعدٌ بأن وراء الركام بذرة حياة، ووراء العجز يقظة، ووراء الليل فجرًا لا يُدركه إلا من جرب السقوط في العتمة ثم نهض.

إنها يقين مؤجَّل، يتأخر ظهوره لكنه يظل حاضرًا في صميم الروح.

وكأنها تردد مع الرومي همسه العميق:

 

لا تَحزنْ إنْ انفطرَ قلبُك

ففي الصدوعِ يدخلُ النورُ.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!