✍️ يوحنا عزمي
ما بدا كقمة استشارية على هامش اجتماعات الأمم المتحدة تحول سريعاً إلى مشهد دبلوماسي مُدبر : دعوة الرئيس الأمريكي لقادة السعودية وقطر والإمارات ( إلى جانب مصر والأردن ودول أخرى ) لمناقشة ملف غزة عُرضت للعالم كإقرار بأهمية هذه العواصم في صناعة القرار الإقليمي ، لكن قراءة الحدث من زاوية المصالح تكشف طبقات أبعد من البساطة الظاهرية.
البيت الأبيض أعلن واستعرض الرئيس خطة أو مخططاً متعدد البنود لوقف الحرب وإعادة ترتيب الأوضاع في غزة ، فيما تحدثت تقارير عن وثيقة إدارية من عدة بنود أو «خطة» عرضت خلال لقاءات الأمم المتحدة ، وترافق ذلك مع تصريح دبلوماسي أمريكي عن تفاؤل بوجود «اختراق» دبلوماسي وشيك. كما رُبطت هذه الجهود بلقاءات أمريكية مرتقبة مع قادة آخرين من المنطقة وإسرائيل.
لماذا هذه الدعوة ؟
إشعال أعمدة النفوذ الخليجية كواجهة
عرض الولايات المتحدة لقادة الخليج على أنهم «المحور» أو الحلقة الأساسية في حلحلة ملفات المنطقة يخدم رسالتين متوازيتين : الأولى داخلية ــ ترويج صورة أن هناك قُوى عربية قادرة على ضبط الملف وتحمّل تبعاته ؛ والثانية خارجية ــ إبقاء القرار الفعلي مرهونًا بعلاقات المصالح بين واشنطن وهذه العواصم. هذه البهرجة تمنح واشنطن أداة لتوجيه الرسائل ولإظهار أن الحل العربي ــ بمخاطبه الخليجي ــ ممكن.
الاحتواء مقابل الإعتماد
العلاقة بين واشنطن وهذه العواصم كانت تاريخياً مبنية على تبادل مصالح : أمن ، قواعد ، استثمارات وصفقات أسلحة. هذا النمط يجعل من قادة الخليج شركاء يمكن احتواؤهم أو تفعيلهم لتنفيذ سياسات أمريكية إقليمية ، وليس بالضرورة شركاء مستقلين بصلاحية قيادة مشروع عربي جامع. دراسات وتحليلات عدة عن زيارات ومقاييس النفوذ تؤكد أن طابع هذه العلاقة غالباً ما يكون «معاملة تبادلية» و«استفادة متبادلة» أكثر مما هو شراكة استراتيجية متوازنة.
تذويب الدور المصري والعربي التقليدي
ما يبدو إقصاء لجهات فاعلة عربية تاريخية (أو تهميشاً لدورها) ليس صدفة ، بل قد يكون نتيجة حسابات استراتيجية أمريكية ــ وهي محاولة لتفتيت القاعدة التقليدية للزعامات العربية التي كانت تُمثل توازناً أكبر أمام سياسات إسرائيلية أو أمريكية أحادية.
إضعاف دور مصر أو تهميش محاور أخرى يعني إضعاف إمكان قيام قيادة عربية موحّدة في مواقفها أو مبادراتها.
خدمة غايات أوسع : أمن إسرائيلي واستقرار أمريكي ـ اقتصادي
في سياق الحرب على غزة والضغط الدولي ، فإن أي تحول في خريطة النفوذ العربي يسهل تمرير خطوات سياسية أو أمنية تُخدم توجهات إسرائيلية أو تحفظ مصالح أمريكية في المنطقة (سياسية ، اقتصادية ، عسكرية). لذلك ليس غريباً أن تُصاغ الدعوات بهذا الشكل الذي ينتج عنه استقطاب محاور عربية ، بدلًا من تشكيلة شاملة وموحدة.
الآثار المحتملة (القصيرة والمتوسطة الأمد)
تفكك جبهات ضاغطة : تهميش فاعلين قُدروا تاريخياً أن يكونوا مضادا لتجزئة القرار قد يؤدي إلى إحكام واشنطن لآليات الضغط والتوجيه في المنطقة.
تفخيم دور خليجي مُقيد : الدول الخليجية قد تكتسب صوتاً أكبر في المحافل الدولية ، لكنه صوت مرتبط بشرطية مصالح خارجية — ما يجعل استقلاليته محدودة.
إضعاف سقف المطالب الفلسطينية : مع تحول المحادثات إلى صيغ «خطة منسقة» تقودها دول ذات ارتباطات خاصة مع واشنطن ، قد تتراجع المطالب الفلسطينية إلى مصطلحات تفاوضية ميسرة أو إلى عناصر تقنية بدلاً من عناصر سياسية جوهرية (الحدود ، القدس ، العودة).
احتقان داخلي عربي : شعور الإهانة أو التهميش قد يُغذي ردود فعل شعبية أو سياسية في دول إقليمية أخرى ، ما يعقّد ضبط المشهد ويزيد احتمالات التصعيد غير المنضبط.
ماذا ينبغي على الدول العربية الفاعلة أن تفعل؟
المطالبة بلقاءات أوسع وشفافة : أي مبادرة إقليمية يجب أن تُبنى على قاعدة شاملة تمثّل الأطراف الرئيسية ولا تقتصر على «نخبة» إقليمية مُصغرة.
العمل على تنسيق عربي حقيقي : عبر قنوات ثنائية وإقليمية (جامعة الدول العربية ، مبادرات ثنائية) لإصدار مواقف موحّدة تُقوي الموقف التفاوضي العربي.
التمسك بالخطوط الحمراء الفلسطينية : أي حلول مؤقتة إنسانية أو إغاثية لا تغني عن مطالب سياسية جوهرية يجب تثبيتها كمرتكز للمحادثات.
التحرر من تبعية القرار: على المدى المتوسط ، ينبغي للدول العربية أن تُعيد بناء مسارات تنموية وسياسات خارجية تقلل من الحاجة إلى الاعتماد الأحادي على قوى خارجية.
اللقاء الذي صورته واشنطن كخطوة إيجابية لحل أزمة إنسانية وسياسية لا يلغى الطابع الاستراتيجي والسياسي العميق وراءه : هو جزء من لعبة نفوذ ، وإعادة تقطيع للمشهد الإقليمي لصالح من يملكون أدوات النفوذ المالي والأمني.
قراءة هذه اللعبة بذكاء تتطلب محافظات عربية على الحد الأدنى من الوحدة السياسية والشعور بالمصالح المشتركة ، وإلا فقد تتحولنا هذه الدعوات الدبلوماسية إلى آليات رسمية لتفتيت قدرتنا الجامعة على التأثير.