✍️ يوحنا عزمي
بدأت رياح التغيير تهب على الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق، وكأن طوفان الوعي الذي اجتاح العالم بعد مشاهد غزة قد وصل إلى قلب نيويورك نفسها.
فالعالم استيقظ على مفاجأة مدوية : الشاب المسلم “زهران ممداني”، ذو الأصول الهندية والمولود في أوغندا ، يفوز بمنصب عمدة نيويورك ، المدينة التي طالما وُصفت بأنها قلعة الصهيونية الأمريكية ، ومركز نفوذ اليهود في العالم.
لكن الحدث لم يكن مجرد فوز سياسي عابر ، بل زلزال حقيقي قلب الحسابات وأشعل نقاشاً واسعاً حول مستقبل النفوذ الإسرائيلي في أمريكا.
زهران ممداني ، البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاماً فقط، لم يكن مرشحاً تقليدياً ؛ لم يأت من خلفية مليئة بالمال أو النفوذ أو الدعم الحزبي ، بل جاء من الشارع ، من الناس البسطاء الذين يعيشون في الظل ويكافحون كل يوم من أجل لقمة العيش. ترشح ضد قوى هائلة تمتلك كل شيء : المال، الإعلام، اللوبيات، وحتى دعم الدولة العميقة نفسها.
فقد خاض معركته ضد دونالد ترامب ، الذي استخدم كل ما يملك من نفوذ وسخرية وتحريض، وواجه أيضاً اللوبي الصهيوني الشرس ، الذي ضخ أكثر من أربعين مليون دولار لدعم المرشح المنافس وتشويه صورة ممداني ووصمه بعداء السامية.
لكن الأخطر من كل ذلك أن الموساد نفسه وضع اسمه على قائمة “المعادين للسامية”، وتلقى تهديدات علنية بالاغتيال، في حين خرج ترامب مهدداً بقطع التمويل عن نيويورك إن فاز هذا الشاب المسلم “المزعج” كما وصفه.
ومع ذلك ، لم يتراجع ممداني. لم يساوم ، لم يختبئ ، بل صعد المنابر وأعلنها صراحة : ما فعلته إسرائيل في غزة هو “إبادة جماعية”، ووصف نتنياهو بأنه “مجرم حرب”، مضيفاً أنه لن يتردد في إصدار مذكرة اعتقال بحقه إن وطأت قدمه أرض نيويورك.
كلمات لم يجرؤ على قولها أي مسؤول أمريكي من قبل، لكنها خرجت من فم مهاجر شاب لا يملك سوى إيمانه بالعدالة وصوت الناس الذين وثقوا فيه.
فاز ممداني في معقِل اللوبي الصهيوني ذاته ، في مدينة كانت تعتبر “تل أبيب الثانية”، حيث النفوذ المالي والإعلامي والسياسي لليهود الأمريكيين. ورغم الحملات الشرسة التي استهدفته، استطاع أن يحصد انتصاراً تاريخياً غير مسبوق، بفارق كبير في الأصوات ، بفضل تأييد الشباب والمهمشين وأبناء الطبقة العاملة. كان صوته صدى للذين لم يجدوا يوماً من يمثلهم في أروقة السلطة.
اعتمد فقط على تبرعات العمال ، والسائقين ، والممرضين، والبسطاء الذين حلموا أن يروا وجهاً يشبههم على كرسي الحكم.
لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في فوزه فحسب ، بل في من صوت له. فقد أظهرت النتائج أن 67٪ من الشباب اليهود تحت سن الرابعة والأربعين منحوه أصواتهم. هؤلاء الذين سئموا من هيمنة الصهيونية على دينهم ، ورفضوا أن يُستخدم اسم اليهودية لتبرير جرائم الاحتلال.
لقد عبروا بصوتهم عن تمرد داخلي غير مسبوق ضد سياسات نتنياهو وضد آلة القمع الإسرائيلية التي شوهت صورة اليهود حول العالم.
حين صعد ممداني ليلقي خطاب النصر ، لم يتحدث كسياسي منتصر ، بل كقائد ثورة أخلاقية. قال إن “الأثرياء يشغلون بال الذي يقبض 20 دولارًا في الساعة ليحقد على الذي يقبض 30 ، كي ينسى أن هناك من يجني ملايين من عرق الاثنين.” كانت كلماته كصفعة على وجه النظام الرأسمالي الأمريكي الذي طالما استخدم الخداع والتقسيم الطبقي لإسكات الفقراء.
أما اللحظة التي لن تُنسى، فكانت حين أنهى خطابه بجملة قالها بالعربية: “أنا منكم وإليكم”. كانت الجملة بمثابة رسالة رمزية ، ليس فقط للمسلمين أو العرب ، بل لكل من شعر أنه مُستبعد من المشهد السياسي العالمي.
ثم وجه حديثه لترامب قائلاً على الهواء مباشرة : “أنا عارف إنك بتتفرج علي دلوقتي ، وعندي ليك أربع كلمات .. عليّ صوت التلفزيون عشان تسمع كويس.” لحظة تحدٍ تجسد فيها التحول العميق في الوعي الأمريكي ، وتبدل موازين القوة التي بدت لسنوات ثابتة لا تهتز.
إن ما حدث في نيويورك ليس مجرد إنتصار انتخابي ، بل هو إعلان رمزي عن سقوط هيمنة الخوف من اتهامات “معاداة السامية” التي كانت تكمم الأفواه لعقود.
فها هو سياسي مسلم ، في قلب أمريكا، يقف ضد الصهيونية ويكسب دعماً من اليهود أنفسهم. هذا هو تأثير “طوفان الأقصى”، ليس فقط على السياسة في الشرق الأوسط ، بل على الفكر والضمير العالمي.
العالم يتغير فعلاً ، والتاريخ يُعاد كتابته بأسماء جديدة وأصوات مختلفة. وما كان يُعتبر مستحيلًا بالأمس، صار اليوم واقعاً. الصهاينة الذين حكموا العالم بالإعلام والمال يجدون أنفسهم الآن معزولين، حتى داخل أكثر مدنهم نفوذاً.
وممداني، الذي بدأ كمرشح صغير بلا دعم ، أصبح رمزاً لتحول سياسي عالمي ، يعلن أن زمن الخضوع انتهى، وأن صوت الحق بدأ يسمع أخيرًا في العواصم التي طالما صمتت أمام الظلم.
فما حدث في نيويورك لم يكن مجرد فوز عمدة ، بل كان زلزالًا سياسياً عالمياً… البداية الفعلية لعصر جديد يسقط فيه القناع عن الإمبراطوريات الزائفة ، وتعلو فيه أصوات المستضعفين من كل دين وجنسية.




