✍️ يوحنا عزمي
تتحرك الأحداث في قلب إفريقيا بسرعة مريبة وكأن خيوط اللعبة تُدار من غرفة عمليات خفية، هدفها ليس فقط زعزعة استقرار القارة ، بل رسم خريطة جديدة تعيد توزيع النفوذ والثروات. في الوقت الذي يبدو فيه العالم منشغلًا بالحروب الظاهرة ، هناك نار أخرى تشتعل بصمت في نيجيريا والسودان ، وتوشك ألسنتها أن تمتد إلى حدود مصر الجنوبية ، في معركة ليست مجرد صراع محلي بل مشروع دولي ضخم تديره قوى تبحث عن الذهب والنفط والمعادن النادرة التي تختزنها الأرض الإفريقية في أحشائها.

القصة بدأت حين كتب دونالد ترامب ، الرئيس الأمريكي ، منشورًا على منصته الخاصة يهدد فيه الحكومة النيجيرية صراحة، ملوحاً بتحرك عسكري أمريكي وشيك بحجة حماية المسيحيين هناك. في ظاهر الأمر يبدو الأمر إنسانياً ؛ دعوة لإنقاذ أرواح الأبرياء ووقف المذابح ، لكنه في حقيقته إنذار يعيد للأذهان أساليب التدخل الأمريكي القديم : شعارات نبيلة تُرفع لتمرير أطماع اقتصادية واستراتيجية. وما هي إلا ساعات حتى أصيبت نيجيريا بصدمة اقتصادية عنيفة، انهارت الأسواق والبورصة ، وتهاوت عملتها ، وتراجعت سنداتها في الأسواق العالمية في مشهد يوحي بأن الصدمة كانت مرتبة بعناية.
لكن نيجيريا ليست بلداً فقيراً أو مهمشاً كما يُراد تصويرها، فهي أغنى دول إفريقيا بالذهب والمعادن النادرة كالليثيوم واليورانيوم والمنجنيز، وتملك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي تزيد على مئتي تريليون قدم مكعب ، فضلًا عن كونها منتجًا أساسياً للنفط وعضوًا فعالًا في “أوبك”.
هذه الثروات تجعلها هدفًا لكل من يسعى إلى موارد القارة، خصوصًا بعد أن بدأت تفتح أبوابها للصين وروسيا في مجالات الطاقة والتعدين ، الأمر الذي أثار قلق واشنطن وهدد مصالحها في إفريقيا بعد انسحاب فرنسا وتراجع نفوذها هناك.
لذا جاء التهديد الأمريكي وكأنه إعلان صريح بأن الولايات المتحدة لن تسمح بترك القارة للصينيين، وستتدخل تحت أي ذريعة ـ دينية كانت أو إنسانية ـ لتعيد إحكام قبضتها على منابع الثروات.
وفي الوقت ذاته ، وعلى بعد آلاف الكيلومترات شرقاً، يعيش السودان فصلاً أكثر دموية من القصة نفسها. فالحرب التي تلتهم المدن واحدة تلو الأخرى لم تعد مجرد صراع داخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل تحولت إلى مواجهة إقليمية بالوكالة بين قوى خارجية تتصارع على النفوذ والذهب.
الدعم السريع يتلقى السلاح والتمويل من دول خليجية وغربية ، بينما الجيش السوداني يحاول التماسك وسط حصار اقتصادي وميداني خانق. المعارك الآن تتجه نحو مدينة الأبيض في شمال كردفان، المدينة التي تُعد شرياناً استراتيجيًا للبلاد ومركزًا حيويًا للإمداد والتموين. السيطرة عليها ستغير موازين الحرب كلياً ، وتفتح الطريق لتفتيت السودان وتقسيمه إلى مناطق نفوذ متنازعة ، وهو ما يهدد الأمن القومي المصري مباشرة.
المأساة الكبرى أن كل ذلك يجري وسط تعتيم إعلامي كثيف ، فالعالم لا يرى ولا يسمع إلا ما تسمح به القوى المتحكمة في المشهد. الأخبار تتسرب بعد أيام، والمجازر تمر بلا شهود، بينما الخرائط تُرسم في الخفاء لتخدم مصالح اقتصادية ضخمة تُمهد لتقسيم إفريقيا من جديد ، ولكن هذه المرة بأدوات ناعمة : مليشيات ، عقود استثمار ، وحروب محدودة تغلفها شعارات الإنسانية.
في النهاية ، الصورة التي تتشكل أمامنا واضحة لمن يريد أن يراها. المشروع واحد ، واللاعبون هم أنفسهم : أمريكا تسعى لتأمين المعادن التي تحتاجها صناعاتها في ظل الحصار الصيني ، الإمارات تكدس ذهب السودان وتوسع نفوذها في الموانئ والمعابر ، وإسرائيل تترقب المشهد ساعية لخلق جدار من الفوضى على حدود مصر الجنوبية يعزلها عن امتدادها الإفريقي الطبيعي.
ما يجري في نيجيريا والسودان ليس صدفة ولا تزامناً عابراً، بل فصل من فصول لعبة كبرى لإشعال القارة من الداخل حتى تُعاد صياغة مستقبلها بما يخدم مصالح الغرب.
الوقت وحده كفيل بإظهار ما إذا كانت هذه النيران ستحرق القارة بأكملها أم أن هناك من سيتصدى لتلك المؤامرة ، لكن المؤكد أن الجنوب المصري أصبح على مرمى الخطر، وأن ما يبدو كصراع محلي ليس سوى بداية لموجة جديدة من إعادة استعمار إفريقيا بثوب حديث .. ثوب اسمه “الحرب من أجل السلام”.

						


