مقالات

الهرم الرابع .. ميلاد أسطورة مصرية جديدة أمام عيون العالم

✍️ يوحنا عزمي

في لحظة فارقة من عمر الحضارة ، وبعد سبعة آلاف عام من المجد المتصل، تقف مصر من جديد على أعتاب حدث سيُكتب بأحرف من نور في سجل الإنسانية. بعد ساعات قليلة فقط ، ستتجه أنظار العالم نحو الجيزة ، حيث يطل “الهرم الرابع” في ثوبه الجديد .. المتحف المصري الكبير، الصرح الذي لا يشبه أي متحف على وجه الأرض، ولا ينتمي إلا لمصر وحدها ، كما لو أن التاريخ قرر أن يعيد تقديم نفسه للعالم من نقطة البداية.

تخيل معي أن كل ما ورثناه من عظمة الفراعنة ، وكل ما كُتب عنهم وما لم يُكتشف بعد ، يتجسد اليوم في مكان واحد، على أرضٍ واحدة، تحمل ذاكرة البشرية منذ فجرها الأول. فمصر ، التي عرفها العالم كأقدم حضارة مستمرة عبر الزمان ، لم تكتفِ بأن تكون مهد التاريخ ، بل قررت أن تبهره من جديد. وحتى ما نعرفه عن عمرها الممتد لسبعة آلاف سنة ، ليس إلا جزءاً صغيراً من الحقيقة ؛ فالبرديات القديمة، مثل بردية “تورين” المحفوظة في متحف إيطالي ، تؤكد أن الجذور المصرية أعمق من ذلك بكثير ، وتعود إلى أكثر من ثلاثين ألف عام.

اليوم ، هذا الإرث الهائل يجد بيته في أضخم متحف على وجه الأرض مكرس لحضارة واحدة. المتحف المصري الكبير ليس مجرد قاعاتٍ من الحجر والزجاج، بل هو رواية مصرية خالصة ، تُروى لأول مرة أمام البشرية في شكلها الكامل. كل قطعة فيه تحكي لحظة من حياة الإنسان المصري القديم، من أول فكرة زرعها في طين النيل حتى أول حجر رفعه نحو السماء ليبني حضارة خالدة.

داخل هذا الصرح تقبع أكثر من 57 ألف قطعة أثرية ، جميعها من حضارة واحدة لا مثيل لها ، وكلها أصلية غير منهوبة ـ على عكس ما امتلأت به متاحف العالم من آثارنا المسروقة. ولو قررت أن تتأمل كل قطعة فيه لثانية واحدة فقط، فستحتاج ست عشرة ساعة من المشاهدة المتواصلة دون أن ترمش عينك لحظة واحدة.

اثنتا عشرة قاعة عرض تفتح لك أبواب الزمن ، لتعيدك إلى عصور الملوك والكهنة والمهندسين والعلماء الذين صنعوا أول دولة عرفها التاريخ. هناك ، في إحدى القاعات وحدها، تمتد مساحة سبعة آلاف وخمسمائة متر مربع لاحتضان كنوز الملك الشاب توت عنخ آمون ـ أكثر من خمسة آلاف قطعة فريدة تُعرض لأول مرة مجتمعة منذ اكتشاف مقبرته قبل قرن كامل. قطع كأنها خرجت لتوها من يد الفنان الذي نحتها قبل آلاف السنين ، تحتفظ ببريقها وجلالها كأن الزمن لم يمسها.

رحلة بناء هذا المتحف كانت هي الأخرى أسطورة مصرية خالصة. سبعة عشر عامًا من العمل الدؤوب ، شارك فيها آلاف المهندسين والعمال المصريين، ليُشيد على مساحة تقارب نصف مليون متر مربع. لذلك حين نصفه بأنه “الهرم الرابع”، فنحن لا نبالغ ؛ إنه صرح صاغه العرق المصري، وشُيد بأيدي أبنائه كما شُيدت الأهرامات الأولى.

وقبل أن تُفتح أبوابه حتى ، حصد المتحف ثماني شهادات ISO وخمس جوائز دولية كبرى ، بينها جائزة اليونسكو للبناء الأخضر، لتصبح مصر بذلك صاحبة أحد أعظم المشاريع الثقافية في التاريخ الحديث. الواجهة نفسها  تحفة معمارية تمتد 600 متر من رخام سيناء النقي، منقوشة بخراطيش الملوك كأنهم يستقبلون زائريهم  بأنفسهم ، فيما تُرحب بك المسلة المعلقة لرمسيس الثاني عند المدخل ، لتذكرك أنك تطأ أرض المجد ، أرض الحضارة الأولى.

وغداً ، حين تُضاء الأنوار وتُفتح الأبواب ، سيشهد العالم كله ميلاد هذا الصرح العظيم. تسعة وسبعون وفداً رسمياً.  وتسعة وثلاثون ملكاً ورئيساً وأميراً من القارات الثلاث ، سيقفون أمام عظمة التاريخ المصري. الصحف العالمية  تكتب عن الحدث باعتباره الأهم ثقافياً في القرن ، ومنصات التواصل تستعد لنقله مباشرة إلى مئات الملايين ، حتى منصة “تيك توك” نفسها أعلنت بثاً عالمياً للحدث بالشراكة مع مصر.

لكن وراء كل هذا الوهج العالمي ، هناك معنى أعمق بكثير. هذا الافتتاح ليس احتفالًا بمتحف ، بل إعادة بعث لهوية  أمة علمت العالم معنى الحضارة ، ووهبته أول فكرة عن الزمن ، والخلود ، والإبداع. مصر اليوم لا تحتفل بالماضي، بل تُقدمه من جديد لتقول للعالم : نحن الذين جئنا أولًا ، ونحن الذين سنبقى.

في لحظة الافتتاح ، حين يلتقي ضوء الشمس بواجهة المتحف المهيبة ، سيشعر كل مصري بأن نبض الفراعنة ما زال يسري في عروقه ، وأن الحلم الذي بدأ من حجارة الجيزة لم ينتهِ بعد. فمصر ليست دولة وُجدت بين حدودٍ على خريطة … مصر فكرة خُلقت قبل أن يُكتب التاريخ ، وهي التي صاغته بحروفها الأولى.

حفظ الله مصر، ودام مجدها الذي لا يُقهر، وتبارك هذا الهرم الرابع الذي كتب لها صفحة جديدة في سفر الخلود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!