✍️ يوحنا عزمي
بعد سبعة عشر عاماً من الإنتظار ، تجسد الحلم أخيراً على أرض الواقع. ففي ليلة تُضاف إلى سجل ليالي المجد المصري ، أُسدِل الستار عن حفل افتتاح المتحف المصري الكبير ، أضخم متحف في العالم مكرس لحضارة واحدة هي الحضارة المصرية العريقة.
كان الحدث مزيجاً من الفخر والإبداع والدهشة ، وكأن الزمن عاد إلى الوراء ليُذكرنا بعظمة أجدادنا الذين علموا الدنيا معنى الفن والعلم والخلود.

منذ اللحظة الأولى ، كان الافتتاح عرضاً بصرياً وموسيقياً يخطف الأنفاس. أبرز مشهد في رأيي ـ وربما الأكثر إبداعاً من الناحية الفنية ـ كان العرض الموسيقي السيمفوني الذي جرى تنفيذه بتقنية مذهلة: عزف متزامن بين فرق موسيقية في البرازيل وفرنسا واليابان والولايات المتحدة ، جميعها تتناغم في الوقت ذاته مع الفريق المصري الذي يعزف على أرض الجيزة أمام المتحف.

في تلك اللحظة ، بدا كأن مصر تمسك بعصا القيادة لتقود سيمفونية الحضارة من قلبها إلى أقصى بقاع الأرض ، وكأن نغمة من نغماتها تمتد عبر الزمن لتُذكر الجميع بأن الحضارة بدأت هنا ، من هذا التراب.

أما بقية العروض ، فكانت لوحة إنسانية متكاملة. صوت السوبرانو المصرية وهو يتعالى في الفضاء ممزوجاً بالأغنية النوبية العريقة والإنشاد الأوبرالي القادم من كل قارات العالم ، رسم مشهداً فنياً فريداً عن تنوع مصر الثقافي واتساع تأثيرها الإنساني.
لكن أكثر لحظة مؤثرة في رأيي كانت تلك التي استُعرضت فيها المسلات المصرية التي تزين سماء باريس ولندن وروما وإسطنبول. كانت اللقطة أشبه برسالة غير مباشرة للعالم ، تُذكرهم بأن آثارنا التي خرجت يوماً من أرضنا ما زالت تنتمي إلينا ، وأنها ستعود ، مهما طال الزمن.

وفي أثناء كلمة الفنانة شيريهان ، كانت هناك قصة رمزية عميقة ربما لم يلتفت إليها كثيرون. تحدثت عن العلاقة بين الأهرامات المصرية ونجوم حزام “أورايون”، وعن فكرة أن المسلات كانت في الماضي تضيء المدن المصرية القديمة، وأن وراءها أسراراً لم تُكتشف بعد. هذه الفكرة أعادت طرح سردية جديدة عن أسرار الحضارة المصرية وربطها بالكون والفلك ، وهي رؤية تستحق التوقف عندها طويلاً ، وسأعود إليها لاحقاً في سلسلة مقالات قادمة لأنها تحمل في طياتها مفاتيح لإعادة قراءة التاريخ المصري بروح مختلفة.
ثم جاءت الألعاب النارية ، أو بالأحرى “اللوحة السماوية”، لتكمل المشهد بإبداع خيالي. كان تناغم الألوان والنور مع المقطوعات الموسيقية كأنه حوار بين السماء والأرض، وكأن النجوم نفسها تشاركنا الغناء. لحظة جعلت السماء المصرية تبتسم فخراً وكبرياء.

أما المشهد الذي مس القلوب بعمق فكان امتزاج الترانيم القبطية بالإنشاد الإسلامي في لحظة روحانية مهيبة. مشهد يلخص جوهر مصر الحقيقية : بلد يجمع بين صوت الكنيسة وصوت المئذنة في انسجام واحد ، ليقول للعالم كله إن هذا الوطن رغم اختلاف العقائد ، يظل نسيجاً واحداً من الإيمان والإنسانية.
وبين الأصوات النوبية التي غنت للنيل ، وبين الإيقاعات التي جسدت روح الجنوب ، تذكرنا جميعاً أن حضارة مصر كانت دوماً ابنة الماء والنور ، وأن النيل ما زال يجري في عروقها كأنه شريان الزمن.

لكن رغم كل هذا الجمال ، لم تخلُ التجربة من بعض الملاحظات الفنية. فقد شابت النقل التلفزيوني أخطاء إخراجية واضحة ؛ الكاميرات المهزوزة وزوايا التصوير غير المتقنة أفقدت بعض المشاهد عمقها البصري ، كما أن توازن الصوت في بعض اللقطات لم يكن مضبوطاً ، حيث ارتفعت الموسيقى على حساب الحوار أو السرد. والأدهى من ذلك ظهور لقطة تحمل علامة مائية لموقع “Shutterstock” داخل المونتاج ، وكأن اللقطة مأخوذة دون ترخيص في حدث عالمي بهذا الحجم، وهو أمر لا يليق بمستوى احتفال تاريخي كهذا.
ومع ذلك ، لا يمكن إنكار أن الحدث في مجمله كان مهيباً يليق بمكانة مصر. البعض قارن الحفل باحتفال نقل المومياوات الملكية الذي يُعد حتى الآن أعظم استعراض تنظيمي في تاريخ مصر الحديث ، بموسيقاه ذات الطابع الفرعوني وأناشيده المستوحاة من الروح القديمة.

غير أن افتتاح المتحف اختلف في فلسفته الفنية ؛ فبينما اتجه حفل المومياوات إلى الأصالة المصرية الخالصة، قدم حفل المتحف رؤية عالمية الطابع ، أوركسترا غربية، عروض ضوء وصوت حديثة ، وتقنيات موجهة لجمهور دولي يفهم لغة الموسيقى العالمية أكثر من الرموز المحلية.
حفل الموكب كان استعراضياً ومتحركاً ، أما هذا الافتتاح فجاء بروتوكولياً ، ثقافياً ، يخاطب النخبة الدبلوماسية والوفود الأجنبية ، لا الشارع المصري. كلاهما كان مميزاً في مجاله ، لكن الأول ظل أقرب إلى القلب لفرادته وجذوره المصرية الخالصة.
وربما أجمل ما في الأمر أن احتفالية الموكب رفعت سقف طموحاتنا عالياً. أصبحنا نقارن أنفسنا بأنفسنا ، ونرفض أن يقل أي حدث عن المستوى الأسطوري الذي صنعناه من قبل. وهذا في حد ذاته إنجاز عظيم ؛ أن نصل إلى لحظة يصبح فيها الإبهار المصري هو المعيار الذي نقيس عليه جودة أعمالنا.
في النهاية ، ما حدث لم يكن مجرد حفل افتتاح لمتحف ، بل كان احتفالًا بتاريخ وطن بأكمله. مصر ، التي ما زالت تُدهش العالم رغم كل ما مرت به ، تُثبت مجدداً أنها لا تزال قادرة على أن تجمع بين الماضي والمستقبل في مشهد واحد ، يجمع الفن بالروح ، والحضارة بالتكنولوجيا ، والإنسان بالتاريخ.

عظيمة يا مصر ، يا أرض المجد والعراقة والجمال الأبدي. ومبروك لكل مصري عاش هذا الحدث وشعر في قلبه أن التاريخ لا يزال يُكتب هنا ، على ضفاف النيل.




