مقالات

نقطة الحسم في الحرب السودانية : معركة الوجود بين الجيش والدعم السريع

✍️ يوحنا عزمي

تشهد الساحة السودانية في هذه الأيام أخطر مراحل الصراع منذ اندلاعه ، إذ تشير التقارير الميدانية إلى أن الجيش السوداني بات على أعتاب إطلاق أوسع عملية عسكرية في تاريخه الحديث ، عملية تهدف إلى القضاء التام على ميليشيات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو (حميدتي). ويبدو أن هذه المعركة المنتظرة لن تكون مجرد مواجهة داخلية ، بل صراعاً إقليمياً تتقاطع فيه إرادات دول كبرى في المنطقة ، وفي مقدمتها مصر وتركيا ، اللتان يُقال إنهما دخلتا على خط المواجهة لدعم الجيش السوداني سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً.

في المقابل ، تتحرك قوات الدعم السريع بشكل محموم، محاولة اقتحام مدن جديدة في غرب كردفان، في تكرار مأساوي لما حدث سابقاً في الفاشر. هذا التصعيد الخطير ينذر بخطر داهم يهدد وحدة السودان، إذ يخشى المراقبون أن يؤدي سقوط المدن الاستراتيجية إلى فتح الطريق أمام مخطط تقسيم البلاد إلى شرق وغرب ، بما يخدم مصالح قوى إقليمية ودولية تسعى للهيمنة على الثروات السودانية، وخاصة النفط والذهب.

خلال الأيام القليلة الماضية ، شهدت الساحة العسكرية تحركات غير مسبوقة من جانب الجيش السوداني ، الذي  بدأ في حشد قوات ضخمة تتألف من أرتال مدرعة، ووحدات مدفعية ثقيلة ، وفرق مشاة مدربة ، تحت غطاء من الطيران الحربي والمسيرات الحديثة. هذه التعبئة ، وفقًا لتقارير سودانية، تهدف إلى حسم الصراع عسكريًّا بعد شهور طويلة من الكر والفر، واستعادة السيطرة على ولايات دارفور وغرب السودان بشكل نهائي.

ويُلاحظ أن الجيش يحظى الآن بدعم واسع من القبائل السودانية والحشود الشعبية التي قررت الانضمام إلى صفوفه في ما تعتبره “معركة المصير”، بينما يجري تنسيق دبلوماسي واسع مع حلفاء إقليميين جدد ، في مقدمتهم مصر وتركيا ، اللتان شكلتا محورًا مفاجئاً في دعم الجيش الوطني.

في هذا السياق ، جاءت زيارة وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إلى بورتسودان لتؤكد الموقف الرسمي لمصر، الذي عبر عنه صراحة بقوله إن تقسيم السودان “خط أحمر”، معلناً استعداد القاهرة لتقديم كل أشكال الدعم الممكنة للحفاظ على وحدة الدولة السودانية. وقد تبع تلك الزيارة تصعيد ميداني واضح ، إذ أصدر رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان أوامره بشن عمليات واسعة لاستعادة مدينة الفاشر ، في مشهد مؤثر ظهر فيه البرهان يعزي سيدة فقدت أبناءها على يد قوات الدعم السريع، متعهدًا بأن “حقهم لن يضيع”.

وبالفعل، بدأ الطيران السوداني سلسلة من الغارات الجوية استهدفت مواقع حيوية لقوات الدعم السريع، من بينها مطار نيالا الذي تحوّل إلى قاعدة إمداد عسكرية لتلك الميليشيات، ومعسكر “بليل” في جنوب دارفور الذي يُعد مركزاً لتدريب المقاتلين القادمين من خارج السودان ، وخاصة من ليبيا وتشاد. هذه الهجمات تسببت في خسائر فادحة للدعم السريع، وأضعفت قدرته على استقبال الإمدادات أو إعادة تنظيم صفوفه.

وتشير تقارير أخرى إلى أن الجيش السوداني استفاد من دعم استخباراتي تركي مكثف ، شمل تزويده بمسيرات متطورة تُستخدم حالياً في استهداف قوافل الإمداد التابعة للدعم السريع على الحدود الغربية ، حيث تم تدمير عدة قوافل عسكرية قادمة من ليبيا وتشاد. كما تحدثت مصادر إعلامية عن “طيران مجهول” شارك في تنفيذ ضربات نوعية ، يُرجح أنه تركي أو تابع لتحالف إقليمي يعمل بالتنسيق مع الجيش السوداني.

وفي المقابل، يواصل الدعم السريع تلقي ضربات موجعة في أكثر من محور. فالهجمات الجوية المتواصلة دمرت وحدات قتالية كاملة تابعة له كانت تتحرك في المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا، بعد أن تجاوزت خطوطًا حمراء قريبة من الحدود المصرية. كما اعترف قادة الميليشيا بأن أسراباً من الطائرات المسيرة أجبرتهم على التراجع من مناطق في محيط الفاشر ، بعدما تكبدوا خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات.

بات واضحاً أن الحرب لم تعد داخلية خالصة ، بل تحولت إلى مواجهة إقليمية مفتوحة ، تتداخل فيها أطراف عربية وأفريقية ودولية. فبينما يقف الجيش السوداني مدعوماً من القاهرة وأنقرة ، تحوم الاتهامات حول دعم إماراتي وتشادي للدعم السريع، إلى جانب تقارير تتحدث عن محاولات تدخل من ميليشيات إثيوبية ، بل وحتى مشاركة مرتقبة لوحدات من “الفيلق الأفريقي” الروسي، وهو الاسم الجديد لمرتزقة فاغنر.

وسط هذا التصعيد الكبير، وضع الجيش السوداني شروطًا صارمة لأي مفاوضات أو هدنة مقبلة، أبرزها انسحاب قوات الدعم السريع من جميع المناطق التي سيطرت عليها، وعلى رأسها مدينة الفاشر، وتسليم مواقعها للشرطة الوطنية، إلى جانب إخضاع عناصرها للرقابة الدولية ومنع أي تسليح خارجي مستقبلي لها. كما طالب رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان دولة الإمارات بتحمل مسؤوليتها في إعادة إعمار السودان ، معتبرًا أنها كانت الداعم الرئيس لميليشيا حميدتي في حرب تهدف لتقسيم البلاد ونهب مواردها.

أما الآن، فإن الأنظار تتجه إلى ولاية غرب كردفان، حيث تخوض ميليشيات الدعم السريع معارك عنيفة في محيط مدينة بابنوسة، في محاولة لاقتحامها وإسقاط مقر الفرقة 22 مشاة التابعة للجيش السوداني. وتعتبر هذه المدينة آخر خطوط الدفاع عن غرب السودان، وسقوطها – إن حدث – سيشكل تحوّلًا استراتيجيًّا خطيرًا قد يفتح الطريق أمام تقسيم البلاد فعليًّا، وهو ما تعتبره مصر “أمرًا غير مقبول بأي حال”.

وهكذا يقف السودان اليوم على حافة مفترق طرق تاريخي، بين معركة وجود يخوضها الجيش دفاعًا عن وحدة البلاد، وبين مشروع تمزيق يتربص بالدولة من الداخل والخارج. ومع تصاعد الضربات الجوية وتكثيف العمليات البرية، يبدو أن الساعات والأيام القادمة قد تحمل لحظة الحسم التي ستحدد مصير السودان، وما إذا كان سينهض موحدًا من رماد الحرب، أم سينزلق إلى هاوية التقسيم والفوضى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!