أحمد المقدم
في ضوء ما يعرف بالربيع العربي، كانت هناك وعود أُبرمت من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حرية الرأي والتعبير ومستوى حياة كريمة، وهي الوعود ذاتها التي قطعتها الأنظمة الحاكمة في منتصف القرن الماضي عقب استقلال دول العالم الثالث في قارتَي آسيا وإفريقيا، والتي عُرفت سياسيًا بدول العالم الثالث. وفي خضم نشوة الانتصار على المستعمر، ظهرت تلك الأنظمة تحت قناع القومية إلى الواجهة.
وما إن وطَّدت دعائمها، حتى تغيّرت مجريات الأحداث، مما نتج عنه أن أصبح مفهوم الوطن موضع جدل كبير لدى الكادحين من أبناء المجتمع، أما تحقيق العدالة الاجتماعية، فلم يزد الأمر بالنسبة لهم عن كونه حلمًا بعيد المنال.
وما زاد الأمر تعقيدًا هو أقاصيص المغتربين في دول الغرب أو دول الخليج العربي، والتي زادت من زعزعة الإيمان بقضية الوطن ومدى قدرة الأفراد على تحقيق مرادهم فيه، فقد تبدّل الحال حتى صار معظمهم يحلم باجتثاث جذورهم من الوطن، بينما يحلم البعض بتغييرات جذرية في بلادهم.
وفي مطلع الألفية الثالثة، شهد العالم العربي حملة صليبية جراء الاعتداء الأمريكي على العراق عام 2003، والذي لم يخلف وراءه سوى الحطام.
وفي العقد الثاني، اندلعت ثورات الربيع العربي التي أدت إلى تغييرات سياسية هائلة في تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن، والسودان، حيث تم القضاء على الدكتاتوريات في هذه الدول، إلا أن ذلك صاحبه أزمات اقتصادية طاحنة، ومن ثم أصبحت قضية الانتماء للوطن على المحك.
ولمواجهة هذا الركود، لجأت حكومات تلك الدول إلى البنك الدولي والاتحاد الأوروبي للحصول على قروض لا تزيد عن كونها حلولًا مؤقتة لتجاوز تلك التحديات.
وعندما نتأمل حال العالم الثالث، ولا سيما في العالم العربي، نجد أن من أبرز السمات المتأصلة في الشعوب هو التمسك بالهوية، بل إن الكثيرين لديهم نزعة لعدم الرغبة في معرفة الآخر بدافع الصورة النمطية تجاهه، فضلًا عن التمسك القوي بالعادات والتقاليد.
والأهم من ذلك الالتزام بالقيم الدينية، فكان ذلك بمثابة قوة مضادة تدفع تلك الشعوب إلى التمسك المستدام بالوطن رغم واقعهم الأليم، حيث يصعب عليهم أن يحيوا حياة كريمة في ظل التحديات الاقتصادية الجسيمة التي ألقت بظلالها على الوطن، فانعكس ذلك بطبيعة الحال عليهم، وكل ذلك نتاج عجز الأنظمة الحاكمة عن مواجهة تلك التحديات.
وكان للتطور التكنولوجي السريع الذي يشهده العصر الراهن والعولمة التي مكّنت الإنسان من تجاوز حدود الوطن واستكشاف العالم، دورهما في تمكين الشعوب من الانتقال خارج حدود الوطن.
وقد أعاد عمرو أحمد (الحاصل على الدكتوراه من جامعة ولاية ميشيغان وعضو هيئة التدريس في جامعة نزار بيه في كازاخستان) تعريف الوطن بقوله: “لقد أصبح الوطن مفهومًا متعدد الجوانب، وامتزجت فيه الحدود المكانية وأواصر العلاقات العاطفية والذكريات. وبالنسبة للمغتربين من دول العالم الثالث، يمكن تعريف الوطن على أنه تلك النوستالجيا التي تأخذنا إلى حيث تجذرت ثقافتنا، لغتنا، وتقاليدنا.
ويمكن أن يشمل كذلك مواطن الفرص وإن أصابنا فيها الاغتراب بعض الأحيان، ويتمثل الوطن في روابطنا العاطفية مع الأسرة والأصدقاء والمجتمع التي تجاوزت أبعاد الجغرافيا”.
وكأكاديمي يعمل خارج بلده، يشير تعريف أحمد إلى الانقسام الحادث بين شعور الألفة والاغتراب في تعريف الوطن.
فعلى الرغم من رسوخ الذكريات التي لا يمكن محوها من عقولنا، وبرغم الترابط الأسري القوي، أصبح من الممكن أن يترك المرء كل ذلك وراء ظهره، فيحمل وطنه المزعوم في قلبه ويرحل.
لقد كانت هناك في الآونة الأخيرة أرقام هائلة من هؤلاء الذين لجؤوا إلى دول الخليج ودول الغرب وكذلك الشرق الأقصى، كأحد سمات العصر في العقد الأخير.
لقد تركوا وراءهم ذكرياتهم وعائلاتهم رافعين شعار “نحو حياة أفضل”، يقول تيمور أشيلوف، وهو مواطن أوزبكي يشتغل في التجارة الدولية: “نحن في وطننا نسافر أو نطمح إلى السفر من أجل حياة واعدة لنا ولعائلاتنا الذين نخلفهم وراءنا. نحن نسير حاملين أوطاننا في قلوبنا.
ولكن التحدي يكمن في محاولتنا الحفاظ على هويتنا والالتزام بقيم ديننا”.
وبينما تظل الهوية متأصلة بداعي الأسباب السابق ذكرها، يأتي الشعور بالاغتراب كنتيجة حتمية للركود الاقتصادي والهشاشة الاجتماعية.
فقد عانى المثقفون من قلة الفرص والتهميش وغياب العدالة الاجتماعية، مما جعلهم بالطبع يشعرون بالاغتراب.
فقد كانت نظرتهم لأنفسهم لا تزيد عن كونهم دخلاء داخل إطار المجتمع، فقد أصبحوا يفتقرون إلى شعور الانتماء تمامًا.
وأوضحت دراسة بعنوان الاغتراب الثقافي في مصر عام 2020 أن حوالي 67٪ من المعنيين بالدراسة يعانون من الشعور بالاغتراب الثقافي.
وقاريًّا، يعاني 40٪ من الشعوب الإفريقية من فقدان الهوية الثقافية وفق تقرير أعدته منظمة اليونسكو بعنوان التطور الثقافي في إفريقيا.
أما سياسيًا، يعاني 22.1٪ من الشعوب الإفريقية من اضطرابات نفسية نتيجة القمع السياسي، وفق تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية عام 2020. وأوضحت دراسة عن الاغتراب السياسي في مصر أن 75٪ يعانون من الاغتراب السياسي، بينما بلغت النسبة 61.1٪ في البرازيل عام 2022.
إليكم قائمة بأكثر شعوب العالم الثالث إحساسًا بالاغتراب منذ عام 2020:
مصر
البرازيل
نيجيريا
الهند
جنوب إفريقيا
تركيا
المكسيك
إيران
ويُعد نقص الشعور بالذات والمحاولات المضنية للتمسك بالقيم والانتماء للوطن من أبرز مظاهر الشعور بالاغتراب.
ختامًا، يُعد الشعور بالاغتراب ظاهرة تحتاج إلى تسليط الضوء عليها بشكل أعمق.