رحمة خميس
في ليلة قائظة من ليالي أغسطس 1799، وقف في خيمته، محدّقًا في الخريطة الممدودة أمامه. لم يكن ينظر إلى مصر، بل إلى البحر، إلى طريق الهروب. الجيش البريطاني يطوّق الشواطئ، والمماليك يتربصون، ولكن فرنسا تناديه. لا يمكنه البقاء هنا أكثر. حيث قرر أن يهرب سرًّا، أن يترك جنوده للقدر، ويعود إلى باريس حيث السلطة في انتظاره.
بينما كان نابليون بونابرت يمتطي حصانه متسللًا نحو الشاطئ، يفكر وتلمع عيناه ذات اللمحة الزرقاء عما ينتظره ليصبح إمبراطور فرنسا.
يفكر لوقت طويل: كيف سأتقابل مع قادة الجيش في فرنسا بعدما ساء الوضع في مصر؟
هل سيتم عزلي أم سأكون الإمبراطور؟ أم أنها خُدعة وفخ لفأر هارب مثلي؟
هل سيتم الاستغناء عني بهذه السهولة بعد كل ما حاولت جاهدًا؟
وتدور العديد من الأسئلة في عقله الذي كاد أن يُجنّ من فرط ما يشعر به. ووسط الصحراء أيضًا وفقده لمياه شربه مع درجة حرارة ٤٠ مئوية، لكنها ليست كدرجة غليان قلبه جراء ما حدث.
لمحت عيناه شيئًا بعدما سمع دوّي الموتور القوي الذي كان جراء عربة غريبة، تشبه الصفيح المعدني بلون أبيض مع خطوط سوداء، أسرع من أي حصان، تندفع وسط الصحراء كأنها خرجت من قلب المعركة. كانت مليئة بالناس! يتشاجرون، يضحكون.
شد نابليون لجام حصانه، يحدّق في العربة العجيبة. فجأة، توقفت بجواره، وفتح بابها صوتٌ جهوري:
“رايح فين يا أبو الفوارس؟!”
نظر نابليون إلى الداخل، فوجد رجلاً يرتدي جلبابًا، ينظر إليه باندهاش، ثم أشار إلى المقعد الفارغ بجانبه:
“رمسيس.. رمسيس، اركب يابا!”
نظر نابليون خلفه، إلى البحر، إلى الميناء. حيث كان مخططه يكتمل، ثم نظر إلى الداخل، إلى هذه العربة الغامضة… ولسبب لا يدركه حتى الآن، قفز إلى الداخل.
نظر إلى الأمام حيث مقعد السائق، ليجد بيده كوب من الشاي المغلي ثابت، لا يتزعزع وسط قيادة السائق السريعة دون سبب.
وآخر بجانبه يعطيه أجرة الركوب قائلًا: “واحد من الخمسة، وليا باقي”
ويجد يد تدُف كتفه بقوة قائلة: “أجرة العربية كلها”
ليجد بيده كومة من الأوراق الغريبة يقال عليها “أُجرة”،
لينظر ويرفع يده بكومة الأموال قائلًا للسائق: ماذا عساي أن أفعل بتلك الأوراق؟ هل هي لي؟
نظر إليه السائق بغضب شديد وترك كوب الشاي وقال: “هات يابا الفلوس، شقايا دا”
“بتتكلم كأنك خارج من فيلم وإسلاماه كدا ليه؟”
“أنت رايح المسرح؟”
انهالت على نابليون العديد من الأسئلة، لكن ألجمه لسانه عن الرد وسط هذا العبث المبهم، ليسمع صوت السيدة التي تجلس بجانبه قائلة: “خد يابني شكلك جعان، خد سندوتش الطعمية دا”.
نظر إليها نابليون في دهشة وفرح، لم يأكل منذ أن هرب، أخذ منها الساندوتش وقال: “أشكرك مدام، تبدو لذيذة هذه الوجبة الملكية”.
نظرت إليه السيدة في دهشة وقالت بضحك بسخرية: “إنها طعمية يا سيدي”
“أنت بتتكلم كأنك خارج من فيلم تاريخي، دا انت متقمص الدور اوي”.
قالها السائق بضحك وسخرية ثم أضاف: “أين الأجرة يا سيدي الفاضل؟ أريد الثلاثة جنيه والنصف، وفكة الله يسترك”.
قال نابليون وهو في دهشة: ليس معي ما دفعه إليك هؤلاء، لكن معي هذه العملة.
وأعطاه نابليون قطعة معدنية.
نظر إليه السائق بضحك وقال: “هات التلاتة جنيه بقى، دا النص جنيه”
“ولا اقولك، أنت راجل محترم ادتني النص جنيه فكة، مش هاخد منك التلاتة جنيه”.
ضحك نابليون بارتياح بعدما خفق قلبه مليًا من هذا السائق، حتى لا يطرده من العربة. لكن سرعان ما انهالت الأصوات حوله ممن في العربة قائلين بصوتٍ جهور مرة واحدة: “اشمعنا يسطا”
“ياريتني لابس نابليون ورايح المرسح”
“دانت سواق ظالم”.
لم يحتمل نابليون تلك الأصوات الجهورة التي تتحدث في وقت واحد مُعلنة الحرب على السائق، لكنه قال فجأة وبصوتٍ جهور أخرس الجميع ومازال بيده سندوتش الطعمية: “أين نحن أيها الاوغاد، ولِمَ أنا هنا؟ هلا هدأتم قليلًا؟
صمت الجميع في دهشة من أمرهم، مما قال ولم يتحدث سوى السيدة التي أعطته الطعام قائلة بحنان: “كُل الساندوتش، دول مش هيسكتو”.
نظر إليها نابليون وإلى ضحكتها الرقيقة، ووجهها البشوش الذي به لمحة جمال مر عليه العديد من السنوات، لم يلبث إلا وقضم الساندوتش، ونظر بجانبه إلى الشخص القانط بجانب باب العربة ليجد معه زجاجة مياة، أخذها دون استئذان ليتجرع المياة ويأكل بنهم شديد.
بعدما انتهى من طعامه وشعر بالشبع والراحة قال: أنا نابليون بونابرت.
نظر له القانط بجانبه ولم يتحدث، ونظرت إليه السيدة بضحك ثم قالت: “على جنب يسطا”.
“نزلني يابني، وسعلي طريق يا نابليون يا حبيبي”.
نظر نابليون في دهشة، ولم يحرك ساكنًا، حتى قطع دهشته السائق قائلًا: “أيها النابليون، هل تُفسح الطريق لهذه الحجة؟”
نطق نابليون أخيرًا بعد دهشته قائلًا: “ماذا أفعل؟ كيف أُفسح الطريق؟ هل أتحرك من مقعدي؟
قال السائق بضجر: “يا عم قوم خليها تعدي، عدتني بطريقة كلامك الله يسامحك”.
وعاد السائق النظر للطريق بعدما أفسح نابليون طريقه للسيدة.
شعر نابليون بيد تربت على كتفه، فنظر خلفه ووجد طفل بين الثامنة والعاشرة من عمره يضحك إليه، فتبادلا الضحكات، حتى باغته الطفل وضربه على وجهه وقال لوالدته: “ضربت نابليون بتاع الحملة”.
ارتعد قلب نابليون من الخوف، لكن ما لبث إلا وسمع الأم تقول: “عيب كدا، نابليون مات. دا ممثل”.
لم يعرف نابليون لماذا شعر بالراحة على سماعه هذا الأمر بينما هو حي وسط هذه العربة اللعينة.
نظر إلى السائق وقال: “ما اسم هذه العربة؟ وفي أي زمن نحن؟”
نظر إليه السائق بضحك ثم قال:
“أنت نابليون الحقيقي ولا اي؟ ألا تعرف الميكروباص؟
عدتني باللغة العربية دي الله يسامحك”.
نظر إليه نابليون وقال: “ميكروباص؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟”
سمع صوت من خلفه يقول: “أنزلني العباسية أيها السائق.”
ضحك السائق وقال: “عيوني يا باشا، الله يحظك يا نابليون عديت العربية كلها لغة عربية، رايحين رمسيس يا بيه”.
قال نابليون بسرعة: “هل رمسيس بالقرب من ميناء الإسكندرية؟ أريد لحاق سفينتي إلى فرنسا”.
قال السائق: “هنزلك رمسيس واركب اول ميكروباص لصقر قريش وهتلحق السفينة من أولها”.
نظر إليه نابليون بارتياح، لكن ربت على كتفه مرة أخرى الطفل الصغير وهمس بأذن نابليون قائلًا: “إنه كاذب، لن يذهب إلى السفينة، وصقر قريش بعيدة عن فرنسا”.
استشاط نابليون غضبًا من السائق وقال بصوتٍ عال: أتضحك على عقلي أيها المغرور المتعالي، إلى أين ستذهب بي هذه العربة الحقيرة؟ ألن تذهب بي إلى فرنسا؟
نظر السائق إليه قائلًا: “أنا كنت عارف انها ركوبة زفت من الأول”
وأوقف الميكروباص وقال:
“يللا يا عم نابليون انزل، وحصانك اهو مركون على اول الشارع، روح الحق بيه المعركة ياكش تتنفي لجزيرة سيشيل مع سعد زغلول”.
كاد ينطق نابليون وسط هذا العبث القائم، لكن حاول جميع من بالميكروباص إيقاف هذه المشاجرة، بتذكير السائق بالصلاة على النبي حتى هدأ وقال: “عشانكم بس، لكن يجيب التلاتة جنيه اللي عليه”
نظر إليه نابليون بضجر وقال: “تصدق اني غلطان اني سبت هروبي عشان اجي اركب العلبة دي واصطبح بوشك، خد يا عم فلوسك اهي”.
وأعطاه نابليون ثلاث أوراق من فئة الجنيه المصري، التي أعطتهم له السيدة قبل نزولها في الخفاء.
نظر إليه السائق وقال:
“هات يا عم اللي ييجي منك احسن منك، خد حصانك وعلى فرنسا”.
“هذه العربة الغريبة.”
قفز نابليون من الميكروباص وهو يلعن اليوم الذي ترك فيه خطته الأصلية. وقف في منتصف الطريق يحدّق بحصانه المربوط إلى عمود إنارة حديث، بينما كانت السيارات تمر بجانبه مسرعة، تُطلق أبواقها الصاخبة، وكأنها إعلان حرب جديدة لا يفهمها.
نظر إليه من السيارة التي تريد المرور مُسرعة : “مش تفتح يا بني آدم”.
نظر إليه بضحك ولم ينطق حتى قطع الطريق لحصانه.
أمسك لجام حصانه في حيرة، وهو ينظر إلى اللافتة المضيئة التي تحمل اسم “مسرحية نابليون بونابرت والحملة الفرنسية” بأحرف ضخمة. لم يكن هذا ما تصوره عندما قرر الفرار. أين البحر؟ أين فرنسا؟ بل، أين هو الزمن الذي يعرفه؟
وقف يتأمل الفوضى، وابتسم ابتسامة ساخرة. ربما لم يكن القائد الذي ترك جنوده خلفه يستحق نهاية عظيمة، بل يستحق أن يضيع في قلب مدينة لا تشبهه، حيث لم يعد أحد يأبه لمن يكون.
تنهد وقال لحصانه بصوت خافت:
“يبدو أننا عالقون هنا يا صديقي. لنبحث عن سفينة… أو على الأقل عن ميكروباص آخر أكثر رحمة.”