ابداعات

حلقة تحضير الأرواح

 

شريف جلال القصاص.

 

في الثقافة الغربية، تبدأ جلسات تحضير الأرواح بطقس مألوف: طاولة مستديرة، شموع تتمايل على وقع أنفاس متقطعة، ستائر بيضاء تنسدل على نوافذ خشبية، ومصباح مائل يرتجف، يُلقي بظلال تتشكّل على هيئة كل أيقونات الرعب الممكنة. كاميرا فيديو لم تُفعّل، جهاز تسجيل قديم، وكأس ماء “مقدّس”. الشموع لا تهتز فحسب، بل تتراقص كدراويش عميان في حضرة شيطان، تدور على إيقاع طبول خفيّة منبعها الخوف.

 

 

الوسيط الروحاني يتظاهر بالثبات، بينما قلبه ينتفض. يتمتم بكلمات مبهمة، ويطلب من الحاضرين تشابك الأيدي في دائرة مغلقة.

ثم تهتز الجدران. تئنّ الأرض. تخفت الإضاءة حتى تنطفئ. تتطاير الكتب، والأوراق، والأواني… كحبّات ذرة في مقلاة مشتعلة.

الكاميرا — التي لم تُفعّل — تبدأ التسجيل فجأة، وتلتقط طيفًا غامضًا خلف الزجاج، لم يلحظه أحد. جهاز التسجيل يُصدر صوتًا كأنه غناء أوبرالي شيطاني. الماء في الكأس يغلي، ثم يختفي في ومضة. الستائر البيضاء تهتز، تتجمع، وتتخذ هيئة كيان ضبابي نابض بالكراهية… كأن لوسيفير خرج تَوًّا من محرابه.

 

 

(امرأة ترتفع عن كرسيها!) جسدها ينتفض، يتقوّس كما لو أن خيوطًا غير مرئية تشدّها من أطرافها، وتُطوى مثل دمية من القش وكأن عظامها ذابت. عيناها تنقلبان، تتسع الحدقات. صوتها يتحوّل إلى نبرة غليظة، كأنها صادرة من قبوٍ مُغلق منذ قرون، صوت أعمق من أن يُنسب إلى بشر:

“أنتم من طرق الباب… والآن ستدفعون الثمن! أنا لستُ من استدعيتم… بل من كان ينتظر.”

أصدقائي، تجاهلوا هذا الهراء، فأنا لم آتِ لأحدثكم عن استدعاء روحٍ من عالم الموتى، ولا لأقدّم عرضًا رعبيًا تلعب فيه زاوية الكاميرا والموسيقى دور البطولة.

 

ما جئتُ به لا يحتاج مؤثرات، إنه أقرب مما تتصورون، ليس رعب يسكن القبور، أو اشباح تهيم في الأماكن المسكونة، إنما حديثي عن الأرواح الرقراقة، تلك الكيانات النورانيه الابدية، التى تبكي، وتضحك، وتختبئ خلف وجوهٍ تعرفونها… وربما خلف وجوهكم أنتم.

 

نعم، جئتُ لأُحضِر روحًا… لكنها لم تمت بعد. روحٌ ما تزال حبيسة جسدٍ حي، سقطت في غيبوبة طويلة بعد حادثٍ لم يُسجَّل في أي تقرير مروري… وكأن الواقع ذاته أنكر حدوثه.

 

 

كان ذلك الجسد — وعاء الروح المسكينة — وقتها شابًا على وشك العبور إلى ضفّة أحلامه، يحمل دفاتر طفولته، رسوماته، وصوته الداخلي الذي يهمس بثقة: “اصبر… ستصل.”

كان الطريق ضبابيًّا، لكن قلبه كان يرى بوضوح: أحلامٌ شاهقة تهديه مثل النجوم، وتستحق عناء السير اليها.

 

 

وما إن خطا أول خطوة إلى الأمام… حتى انشقّ الضباب عن وحشٍ صامت: حافلة صدئة، عمياء، يقودها واقعٌ ثمل من تعاطي الروتين. مكابحها عُدِّلت لتسرّع الهلاك، لا لتمنعه.

لم تُطلق صفّارة إنذار… بل صفّارة سخرية. اصطدمت به كقدرٍ لا مفرّ منه.

 

 تطايرت أحلامه في الهواء كأوراقٍ ممزقة: كراسات الرسم، جداول الرؤى والاهداف، قصص النجاح المؤجلة… كلّ ما ادّخره من عثرات الطريق، كلّ ندبةٍ جمعها ليقايض بها حلمًا… تلاشى كل شيء.

 

 

الضوء خفَت. الأصوات انقطعت. ثم أطبق الظلام، وسقطت الروح في غيبوبة.

أما الجسد، فواصل طريقه وحده… تجاهل روحَه الملقاة، كأنها لم تكن.

 

 

 

ومنذ ذلك اليوم…

استيقظ الجسد كل صباح، وحده.

يغسل وجهه الميت، يرتدي أكفانه الرسمية،

يرمّم تجاعيد وجهه بالتجاهل،

ويمضي إلى عمله كأنه يمضي إلى مراسم دفنًا يومية.

يسحب خطاه في طابور لا ينتهي،

كأن لعنة سيزيف قد حلّت عليه…

لكن دون صخرة، دون قمة،

فقط موتٌ يتكرر لجسدٍ يتقن تمثيل الوجود،

زومبي يرتدي هيئة إنسان، ويتقن دور الحيّ.

 

 

يحشو يومه بالتفاصيل الصغيرة لينسى أن روحه لم تعد معه. يبتسم عند الطلب، ويضع في جيبه وجهًا لكل مناسبة، بعد أن سالت شريان مشاعره على طريق الحادث.

لكنه لم يلتفت يومًا إلى الخلف، لم يسأل:

 

 “أين ذهب الصبي الذي كان يحلم؟

 يضحك حتى البكاء؟ 

يسخر من نفسه؟” 

هل كبر فعلًا؟ 

أم أن عمره المدوَّن على البطاقات المهترئة خطاء مطبعي؟

 هل تجاوز الخمسين؟ 

أم أنه يعيش في كابوس؟

لم يكن ميتًا… لكنه لم يعش يومًا كاملًا منذ ذلك الحادث.

أما الروح… فكانت هناك، ممددة في مكانٍ سحيق من أعماقه، تتقلب بين سكرات موتٍ بطيء… تفيق للحظات، وتتوسل له:

“إما أن تعيدني… أو دعني أرحل.”

لكنه اعتاد الصمم.

حتى جاء ذلك اليوم…

 

 

 

جلسنا معها، مع تلك الروح. لم نقرأ طلاسم، لم نذبح قرابين، لم ننثر ملحًا، جلسنا فقط… نتحدث.

كانت جلسة تحضير مأساوية وليست مرعبة، جلسة مصالحة بين الجوهر والمظهر. جلسة استدعاء لصرخة منسيّة.

سألناها: “متى سقطتِ؟

 لماذا لم تقاومي؟ 

من أطفأك؟ 

هل بقي فيكِ حياة؟”

 

 

في البدء… صمتت.

منهكة من الخذلان، مثقلة بألم التجاهل.

 

احتجنا لعشرات الجلسات…

كلمات مطمئنة، وأصوات قديمة،

عطرٌ كانت قد نسيت أنها أحبّته،

أبيات شعر طالما احتضنتها،

رائحة الشتاء التي كانت تثير نشوتها،

أفكار دوّنتها على قصاصات أوراق علّقتها على جدران غرفتها…

حتى نطقت، تسبق دموعها الكلمات:

 

“كنتُ أظن أنني أستحق الحياة، وأن أُكمل الحلم معه.

لم أتوقع أن يُنكرني وينأى عني، وكأنني ثوبٌ بالٍ.”

 

أما الجسد، فجلس إلى جانبها مرتبكًا، نادمًا.

نظراته تبحث عنها وكأنها غريبة،

رغم أنه يعرفها جيدًا.

 

 

 

 

قال، بعد تردد:

 

“كنت أهرب… من كلّ ما يشبهك.

أردت نسيان أن خزلت نفسي قبل أن اخذلك”

فردّت الروح، بنبرة مكسورة:

“هربتَ مني، وتركتني أتعفّن في زاوية من عمرك. كنتَ تمرّ بي كلّ يوم… ولا تراني.”

 

 

سكت الجسد.

لم يدافع عن نفسه.

ولأول مرة، أنصت…

اعترف بجريرته، واستشعر الندم.

 

الآن، لزم علينا مداواة الروح،

ولمّ شمل كيانين لا غنى لأحدهما عن الآخر.

لم نصفِ للروح دواءً،

بل طلبنا منها أن تفتح درجها القديم،

أن تلمس كراسات الرسم،

أن تكتب… لا للعالم، بل لنفسها.

 

وطلبنا من الجسد أن يكفّ عن قول: “فات الأوان”،

أن يمحو صورته الكاذبة في المرآة،

ويرسم على صفحتها صورته قبل التيه، صبي له ملامح لا يكبر،

أن يتعافى من أفيون “الممكن” و”الواقع” و”المتاح”،

أن يحرّر تمرّده القديم،

ويطلق مهره العربي الجامح في مضمار الحياة.

 

أن ينزع موتًا دُفن في ذاته،

أن يصرخ، أن يبكي، أن يناديها بأعلى صوته،

أن يكتب لها خطاب اعتراف:

أنه شرع في قتلها وقتل نفسه حين تخلى عنها.

 

أن يتشاركا طَعم لحظات الطفولة والصبا،

أن يلمسا تراب الطريق الذي أقسما أن يصلا إلى منتهاه،

وأن يرسما سماءً طالما نظرت إليهما بفخر.

يصليان الجنازة في محراب الصمود على الضعف والعجز.

 

كانت البداية قاسية… لكنهما حاولا.

وفي آخر جلسة… اقتربت الروح من الجسد، نظرت إليه طويلًا، ثم همست:

 

“أمنحك فرصة… لكن هذه المرة، لا تخذلني إن ضعفت، ولا تتخلَّ عني إن تأخّرت.”

صافحته. لكنّها هذه المرة، أمسكت يده جيدًا.

وتعاهدا…

أن يستيقظا مع الشروق، يرسما شيئًا يُشبههما، يقرآ صفحة من كتاب، ويكتبا في صفحة الكون أمنية كل صباح… مهما بدت مستحيلة.

قد لا يتغيّر العالم… لكنهما عرفا الآن: حين تتصالح الروح مع الجسد، تُبعث الحياة من جديد. يعود للظلّ وزنه، وللضحكة معناها، وللدمعة معنى الشفاء… لا العجز.

 

صديقي… لا تبحث عنا لاستدعاء روحك الهاربة، بل فتّش عنها بنفسك، اطلب من مولاك أن يردّها إليك، وإن شعرت أنها سقطت منك منذ زمن… فلا تنتظر من يستدعيها نيابة عنك.

كن أنت الوسيط. كن أنت جلسة التحضير.

وربما، لا تحتاج لأكثر من عزلة قصيرة، دفتر قديم، ودمعة في جوف الليل، تشكو فيها نفسك لسيّدك… وتعترف بأنك سرتَ طويلًا، لكن نسيت نفسك في منتصف الطريق.

 

 

ومسك الختام،

أن تدرك أن الطريق إلى حلمك لا يُفضي بك إليه، إلا إن عدت أولًا لاصطحاب روحك. تلك الروح التي تركتها خلفك يومًا من فرط اليأس، أو خبّأتها خوفًا من الخسارة.

انفض غبار عمرك؛ فهو ليس إلا وزنًا زائدًا يمكن تجاهله، ما دامت روحك ما تزال في ريعان الصبا، خفيفة لا تُثقلها السنون.

ومهما طال بك الطريق، ووهنت منك الخطى، ستأتي لحظة يلتقي فيها الجسد بروحه، كما يلتقي المسافر بأهله: يفرح القلب، وتسرع الخطى، وتغدو الحياة بطعمٍ يستحق كل العناء.

 

يا لَشرف أن يكون مشهد الختام هو أقصى ما بذلت من جهد، وأدنى ما اقتربت به من حلمك… أن تترك أثرًا يدل على مرورك، لا لأنك وصلت، بل لأنك حاولت… لأنك كنت حيًّا بحق.

وفي حفلةٍ صامتة، لا يحضرها سواك، تصفق لك روحك، وتنحني احترامًا لها.

تبتسم لنفسك… لأنك، منذ بدأت الطريق، كنت قد وصلت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!