زينب عبد الحفيظ
بضواحي مدينةٍ أسكنها… ولا تسكنني،
أتشحُ بثوبٍ لا يمدّني بالدفء، رغم ثقل خيوطه،
مُثقل بفراءٍ ناعمة، لكنها توخزني، بحدّة، كالأشواك.
أتجوّل، ويتبعني ظلي كحارسٍ شخصي،
تارةً يزحف خلفي، وتارةً أخرى يتقدّمني بخطوة.
أسير دون وجهة، لم أعتد الأماكن بعد،
رغم أنني أتممت عامًا منذ أن جئت إلى هنا.
هربتُ من بلادٍ تعبق ترابها بالجهل والفساد،
وظننتُ — بسذاجةٍ ما — أنني سألتقي هنا بظلال الحياة التي طالما حلمتُ بها.
فداهمتني الحياة بمرِّ الحقائق، وأكبرها:
أن أكابر الحمقى من يغادرون أماكنهم بحثًا عن الدفء في جليد الجبال.
أنا… فتاةٌ وحيدة في بلادٍ، كلّ من فيها وحيد.
الجميع منشغلٌ بنفسه، مستقلّ، حتى وإن رافقته عائلته.
الخصوصية هنا شيءٌ مقدّس،
ولكلٍّ حياةٌ منفصلة.
وهكذا أنا،
مرغمةٌ على الوحدة، وإن كنتُ أشتاق لصحبةٍ تؤنس فراغ أيامي.
جلست، وفي يدي كوبٌ من الشاي،
وفي اليد الأخرى كتابٌ ما.
بداخلي شوقٌ لشيءٍ مجهول،
كأنني جائعةٌ، ولا شيء يسد رمقي.
حنيني للمجهول لا يندمل،
وتشوّش تركيزي، حتى بهتت كلمات الكتاب أمامي،
فأغلقته ووضعته جانبًا.
أخذت أرتشف الشاي ببطء،
وعيناي شاردتان نحو وجهةٍ لا أعرفها.
تتدافع الأفكار في رأسي دون ترتيب،
وكأنّ عقلي مسرحٌ للسيرك،
يمتلئ بالمهرّجين.
لم أعد أُبصر ما يدور حولي،
ولا أشعر حتى برذاذ المطر
الذي بدأ يتساقط تباعًا على وجهي…
زاد الجوّ سوءًا تدريجيًا،
فعزمت على الرحيل والاختباء بمنزلي؛
فلم يعتد جسدي سقيع هذه المدينة، ولا أظنه سيعتاد.
خلعت معطفي ورفعته فوق رأسي كي يصدّ عني الماء.
ولم ألتفت لكتابي، تركته عمدًا،
ضجرتُ من القراءة، ولم يعد الصبر يصاحبني.
ورغم برودة الأجواء،
كنتُ أشعر بهالةٍ ساخنة تسير بجانبي وتتبعني.
دبّ الرعب في قلبي، وتهيّأت حواسي،
تلفّتّ يمينًا ويسارًا، فلم أجد سوى بعض المارّة
يتدافعون للنجاة من البلل.
دقّت الساعة، تشير إلى أن الليل قد انتصف.
أسرعت خُطاي، وعندما دلفت إلى منزلي،
أغلقت الباب بقوة كمن يخشى تسلّل الهواء،
وأسدلت الستائر،
ثم أشعلت نار المدفأة التي كانت خامدة.
حين نظرت حولي،
هدأت أنفاسي، وزفرتُ براحة.
أي، وأخيرًا… عدتُ إلى مأمني،
إلى حدود ممتلكاتي.
فأنا، في الحقيقة، امرأةٌ تعشق مجالسة بيتها،
تخاطب جدرانه، وتغازل زهورها،
تتراقص على أنغام موسيقاها.
صغيرةٌ في العمر،
لكنني أعيش بروحٍ هادئة.
لكن… حرارة المنزل بدأت تزداد بطريقة غير معهودة،
وأخذ الصهد يتسرّب من جميع الجهات.
طرأت برأسي وساوس عدّة،
من بينها أن المنزل ربما يحترق من الخارج.
فتحتُ إحدى النوافذ على عجل، وتفقّدت الشارع والمنزل،
فلم أجد شيئًا.
كان صوت المطر يدُبّ فوق الأرض المغمورة بالماء،
والغريب أن الصقيع يشتد في الخارج،
أما بالداخل… فكأن نيرانًا غير مرئية توقدت في أرجاء المنزل.
أغلقتُ النافذة وتنهدتُ بحيرة،
وبينما كنت أقف في منتصف الردهة،
لمحتُ ظلًا يتقدّم من إحدى الغرف.
فغر فاهي، وشخصت عيناي بهلع،
وازداد وجيب قلبي،
لم أقوَ على الصراخ،
ولا على الفرار،
ولا حتى على إغلاق فمي.
كان جسدي قد تجمّد.
الظل يقترب…
لكنّ صاحبه لم يظهر.
راودتني أفكار مجنونة:
هل هو جنّ؟
أو شبح من تلك الأشباح التي كنت أسمع عنها،
وأراها في أفلام الرعب؟
توقّف على بُعد خطوتين،
وأخذ يتأرجح ويهتز بطريقة مخيفة…
انخلع لها قلبي.
ثم دوّى صوتٌ في الأرجاء،
صوتٌ وخيم، مبحوح، له صدى:
“أيتها الفتاة، لِمَ الخوف؟
ألم تكوني تتمنين صحبة أحدهم منذ قليل؟”
ازدرتُ ريقي، وترقرقت عيناي بالدموع،
وهمستُ بصوت بالكاد يُسمع:
“من أنت؟”
فلم يُجب، بل زحف نحو الباب،
ثم عاد، ضاحكًا بسخرية وقال:
“أنا وهجُكِ الحارق،
أنا سببُ هذا الصهد الذي يجتاح منزلك،
أنا غضبُكِ منكِ،
وشبحُكِ المرافق.”
وأردف بعد لحظة:
“أنا قرينكِ…
مرافقكِ في هذه المدينة الأجنبية، المليئة بالشياطين.”
بُهِتَ وجهي، ولم أفهم ما يدور حولي…
فقال:
“فررتِ من غربةِ الأهل… إلى غربةٍ حقيقية،
لم تجدي أحدًا تلوذين به في حاجتكِ، إلا أنا.
أنا علتكِ… ومعينكِ،
أنا عائلتكِ الوحيدة.
لا تنتظري العطف من أحد،
ولا حتى مجالسة أحد.”
استجمعتُ شجاعتي، وقلت:
“حتى أنت، لا أريد مجالستك.
من أنت بحقّ الله؟
ما أنتَ إلا ملعونٌ خبيث،
شيطانٌ يودّ سكنى منزلي!
جِد لكَ بيتًا خاليًا من البشر.
أنا باقيةٌ هنا… وأتنفّس.”
لم يجبني…
وصاحبنا الصمت لثوانٍ طويلة،
حتى ظننتُ أنني طردته بشجاعة كلماتي وحدة صوتي.
لكن لم ألبث كثيرًا حتى ضحك…
وضحكاته ازدادت صخبًا.
ضحكاتٌ حادّة، مخيفة،
كأنها خارجة من عمق الجحيم.
ارتددتُ إلى الخلف برعب،
وكدتُ أفرّ هاربة،
لكنّه توقف عن الضحك فجأة،
وتلاشى الظلّ كأن لم يكن.
هدأت حرارة المنزل تدريجيًا،
واحتضنته البرودة من جديد.
لم يستوعب عقلي ما حدث…
ما كان هذا الشيء الذي ظهر من العدم؟
هل هو حقًا قريني؟
أم شبحٌ من اللاوعي؟
لم أفهم،
ولن أفهم…
ربما هذا هو خوفي:
من وحدتي… ومن ذاتي التي تزداد هشاشةً يومًا بعد يوم.