ابداعات

في ذمة الله

بقلم/ انتصار عمار

 

 

الحياة أشبه بسفينة تتلاطم فيها أمواج أقدارنا، فتارة نعلو فوق الموج، وتارة نطفو، ولا أحد منا يملك زمام تغيير هذا القدر.

 

 

 

وتتوق أنفسنا إلى شيء، ونموت شوقًا لأجل تحقيقه، وغالبًا لا نوفق لهذا الأمر.

 

 

فنبكي أنفسنا، ونلوم قدرًا أبى أن يهبط على أرض خيالنا، ويعانق أحلامنا.

 

 

وحقًا دومًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فالسفن غالبًا ما تبحر بشاطيء غير شواطئنا، وترسو بميناء عكس موانينا.

 

 

فنعود وخيبة الآمال التي تعصف بنا، وتزج بنا في سجن اليأس، وتخط لنا حزنًا غائرًا بدرب أمانينا.

 

 

لذا ينبغي علينا ألا ننتظر السفن، ولا نتابع اتجاه الرياح أي مسلك تسلك! وإنما نكون نحن الشراع، وفي عرض البحر نرتسم.

 

 

ونزرع أملًا يحتضن مياة البحر، فيزهر كل ما على اليابس، والأرض، ونكون نحن السفن، والرياح والموج.

 

 

ونبني أرضًا جديدة لأحلامنا، وعالمًا آخرًا نحياه بالفكر والعقل، ولا نعلق أنفسنا بشيء لم يكن لنا.

 

 

“*في ذمة الله*” تلك العبارة التي نشرت بالصحف، وتصدرت صفحات الجرائد، وحفرت على جدران القبر.

 

 

توفيت إلى رحمة الله تعالى المغفور لها …..، كنت أسمع صوت ميكروفونات المساجد، وهي تذيع نبأ وفاتي.

 

 

وأرى عيون الحزن بقلوب أهلي، وأسمع صوت صراخهم يدوي في أرجاء المكان.

 

 

ورأيتك وأنت تطالع الصحف، وإذ بخبر موتي يباغتك على حين غفلة، فتفزع لصفحات الفيس بوك كي تتأكد من حقيقة الخبر.

 

 

فتجد الخبر يتصدر جميع صفحات الأصدقاء، وتسرع مهرولًا، وتمسك بسماعة التليفون، وتتصل كي تتأكد من حقيقة الخبر.

 

 

فتجيبك أمي وهي تصرخ: أن الخبر حقيقة، وأني مت. فتغلق الخط، وتذرف الأدمع من عينيك كسيلٍ من فيض.

 

 

وترمي بفنجان القهوة من يديك، وتخبط به في عرض الحائط، فينكسر، ويتحول إلى فتات.

 

 

تخطو بقدميك، وتطأ هذا الفتات دون وعي، فتنزف قدماك دمًا، ولا تكترث لهذا، وكأنك لم تستشعر جُرحك، وتحس الوجع.

 

 

 

وتسير داخل البيت بخطى مثقلة، متعبة، كسيحة، شاردًا، بلا وجهة، لا تدري لأين تذهب؟ وماذا تفعل؟

 

 

ثم تدير موتور سيارتك، وتطير بأقصى سرعة إلى مثواي الأخير، وأثناء الطريق تصطدم سيارتك بعربة نقل كبيرة.

 

 

أثناء عبور تلك الشاحنة المحملة بالبضائع الطريق، وأنت تتجه يسارًا، أصيبت جبهتك بفتح غائر.

 

 

يسيل دمًا، ولا تبالي، وكأن ألم فراقي فاق كل وجع، وتكمل طريقك، وتأت إلى قبري.

 

 

ووجهك ملطخٌ بالدم الذي يسيل، وتحدثني دموعك عبر جدران القبر، وتحاكيني: لم رحلتِ؟ لم تركتيني؟

 

 

ثم تجلس صامتًا إلا من حديث الأنفاس التي بالكاد تلتقطها، وكأنها شيهق وزفير عليل يحتاج طبيبه.

 

 

وحوار الدمع الذي يدور بعينيك، وأسمع نبضات قلبك التي تئن وجعًا لرحيلي.

 

 

ويظل الحوار بيننا صامتًا، لا يجيد لغة تترجمه، ولا يهتدي لأحرفٍ تعبر عن كم الأسى الذي يسكن جنبيك، والحزن الذي يستوطن قلبك.

 

 

ويعم الظلام دنياك، ويسدل الليل ستاره، وترتخي كل الآلام وتسكن الأوجاع حينما تلفظ أنفاسك الأخيرة أمام قبري.

 

 

وكأنك ما أتيت لوداعي، وإنما جئت لتصعد أرواحنا سويًا، وتحلق عاليًا في سماء الخلود.

 

 

وانتهى اليوم الأول من رحيلي، وجاء اليوم التالي، عندما أشرقت شمسه بالمدينة، وبدأت مراسم العزاء.

 

 

هذه كانت قراءتي التحليلية لحدث وفاتي، لكنها كانت قراءة تخيلية، قرأتها عبر أسطر تصوراتي، وحس خيالي.

 

 

 

قراءة كانت عبر عبير أحرف كلماتك حينما كنت تكتب إلي، عندما كنت ترسل لي كل صباح بريد الهوى عبر أبياتك.

 

 

وفجأة وفي ثاني أيام العزاء ترامى بين جنبات سرادق العزاء عطرًا أثار يقظتي، وانتباهي.

 

 

فهممت ونهضت لأرى من صاحب العطر الآخاذ؟ وداخلي تساؤل يشق أفق الغيم، كفجر لاح يعلن عن موعد بزوغه.

 

 

 

ألا وهو؛ أومثل هذا العطر الآخاذ يليق بليلة عزاء؟ أوهي أمسية عرس؟

 

 

ثم رفعت بصري لأعلى، فإذ بي أبصرك وأنت يدك تعانق يديها، تعانق صاحبة العطر، من أخذت مكاني بقلبك.

 

 

 أو جئتما لتقدما واجب العزاء في!

كانت هذه صدمتي الكبرى، وليس موتي.

 

 

طلقات رصاص صُوبت نحو صدري، وفتكت بأوتار قلبي الذي كان يصدح بألحان هواه.

 

 

ويبيت كل ليلة يعزف مقطوعات الهوى أبياتًا عالقة بين حلم، ورجاء، تحلم بيوم العرس، يوم زفافنا.

 

 

كانت الصدمة تفوق سقف توقعاتي، فقد كنت أظن أني سوف أرى دموعك تفترش الأرض، وقطراتها المتدلية تبلل سجادها.

 

 

ووجهًا شاحبًا ينسدل عليه وشاح الأسى، وعينين مطموستين من البكاء، لا يظهر منهما أي معالم، سوى خيط بريق يلمع وسط هالة من الدموع.

 

 

وتحتضن أذني صوتك المنهك من شدة النحيب، وكأنه ارتحل عبر سفر طويل مضني.

 

 

وحتى نبرة صوتك ما كان يسكنها الحزن، حقًا إنه مجرد واجب عزاء فقط.

 

 

تلك الخيبات التي أطاحت برأس أحلامي، وخلفت وراءها وجعًا ينزف داخلي، وقلبًا ممزقًا تناوبته يد الغدر.

 

 

ومع آخر قطرة دمٍ كانت تسيل، نهضت من نومي، وأفقت من حُلمي، وأسرعت إلى مرآتي.

 

 

وخلعت عنى تلك النظارة السوداء التي كانت تحول دون رؤيتي الصحيحة للأشياء.

 

 

ورفعت ذلك الستار الضبابي الذي أُسدل على نافذة حياتي، لقد كان حُلمًا قاسيًا، مؤلمًا، أشبه بوحش كاسر يلتهم بين أنيابه عصفورًا ضعيفًا.

 

 

لكنه أيقظني من سُباتي العميق، أفاقني من تأثير مخدر هوى زائف، 

 

فالخطأ كل الخطأ أن نتعلق بأشياء، وأشخاص تعلقًا يكون الحد الفاصل بين الموت، والحياة.

 

 

وألا نرى كافة الأمور بقلوبنا، فالقلب يُخطئ الرؤى أحيانًا، وإنما علينا أن نُحكم العقل في رؤية الأمور، وتفنيدها، ودراسة ماهيتها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!